12 سبتمبر 2024
الجابري وانفجارات 2011
صدر في فرنسا، بداية سنة 2014 الجارية، كتاب "الموجة الديمقراطية العربية"، لمدير معهد الدراسات الأمنية في الاتحاد الأوروبي، ألفارو دوفسكوسلوس، يحاول الاقتراب من مواقف أوروبا من الإسلاميين. ويعتبر أن على الأوروبيين أن يفكروا في الموقف من الأحزاب الإسلامية، بحكم أنها برزت فاعلاً قوياً بعد انفجارات 2011، وما تلاها في أكثر من ساحة عربية، وضمن هذا السياق، تم تركيب مفاصل الكتاب.
يلفت الانتباه في العمل، اعتماد صاحبه على تحليل مادةٍ، تتعلق بعملية استطلاع للرأي، تم إنجازها في مجتمعات اشتعل فيها الحراك الاجتماعي، ويتعلق الأمر بتونس ومصر والمغرب والأردن. فقد سُئِل شباب من المنخرطين في تأطير انفجارات 2011، عن المرجعيات الفكرية التي ساهمت في تكوين تصوراتهم السياسية، وتطلعاتهم للتغيير السياسي في مجتمعاتهم، فأشار أغلبهم إلى بعض أعمال محمد عابد الجابري، مع عناية خاصة بالجزء الثالث من "نقد العقل العربي"، أي "العقل السياسي العربي".
نقرأ في هذا المعطى شكلاً من أشكال قدرة بعض النصوص على تحقيق نمط من التفاعل مع أسئلة الإصلاح والتغيير في مجتمعاتها. ونتصور أنه لا يمكن الفصل بين هذا الكتاب للجابري وباقي أعماله ومواقفه، مع عدم إغفال الإشارة، في الوقت نفسه، إلى مزايا في هذا الكتاب، وخصوصاً، درجة وضوحه، ونوعية الخيارات السياسية الحداثية التي ركَّبها، فقد كان لتجربة الرجل، وانخراطه في العمل السياسي، ما منح عمله في هذا النص كثيراً من القوة والفعالية.
يستوعب نص "العقل السياسي العربي"، الصادر سنة 1990، جملة مواقف ومفاهيم، تضع يدها على جوانب مهمة من إشكالات الثقافة السياسية، في فكرنا المعاصر، كما يستوعب جانبا مهماً من جوانب دفاع الجابري عن الحداثة والتحديث. ويمكن أن نشير هنا، أيضاً، إلى أن الجابري تخلى في هذا النص عن احترازاتٍ كثيرة، أَلِفَ التوقف عندها في بعض مصنفاته الأخرى، عند مواجهته بعض أسئلة الفكر السياسي العربي. وعمل في هذا المصنف على توجيه سهامه النقدية للأطر الصانعة للتقليد السياسي العربي، وتوقف، في خاتمته، أمام المعارك المطلوبة، من أجل التمكن من تقليص هيمنة العقل السياسي التقليدي في المجتمعات العربية.
الواجهة الأولى هي واجهة العمل من أجل تجاوز بقايا القبيلة في الواقع العربي، ببناء مؤسسات المجتمع المدني، فلا يمكننا تجاوز قيود الماضي، المجتمعية والفكرية، إلا بتجاوز كل بقايا المجتمع القبلي في الواقع العربي، ولن يتأتى ذلك، إلا بتدعيم كل ما يساهم في مأسسة المجتمع العربي، وترسيخ قيم المواطنة داخله.
الواجهة الثانية تتعلق بالغنيمة، ويدافع الباحث فيها عن ضرورة ولوج باب الحداثة الاقتصادية، من أجل اقتصاد عربي عصري، يواكب متطلبات المجتمع، ومؤسساته المدنية، ويواجه مختلف مظاهر التبعية الاقتصادية، القائمة في أغلب البلدان العربية. المعركة الثالثة معقدة، وهي معركة فتح باب الاجتهاد على مصراعيه أمام الفكر الحر، ويجب أن تخاض في نظره، ببسالة وجرأة، للتمكن من تعويد الأذهان في المجتمع العربي على قبول مبدأي الاختلاف وتعدد الرؤى والاختيارات الفكرية والعقائدية في المجتمع.
وفي نظرنا، هذه المعارك الثلاث، وعلى الرغم من أنها جاءت في صيغ مكثفة، ومختزلة، في النص، وفي خاتمته بالذات، فإنها كشفت عن جوانب أساسية من خيارات الباحث، كما كشفت جوانب من المخاضات السياسية التي تعتمد المجتمعات العربية.
لا جدال، هنا، في وضوح خطاب الجابري، حيث تستوعب خاتمة كتابه بياناً قوياً، يتم الانحياز فيه للخيارات الفكرية التحديثية، ذلك أن العمل من أجل مجتمع مدني، ومن أجل اقتصاد عصري، ثم من أجل حرية الرأي والعقيدة، يوضح جانباً مهماً، في خلفية القراءة النقدية الناظمة لهذا الكتاب.
وإذا كان في وسعنا أن نقول، هنا، إن أعمال الجابري قدمت، وما تزال تقدم، نموذجاً للمثقف المنخرط في مجابهة أسئلة ثقافته ومجتمعه، بالصورة التي تقضي ببناء خيارٍ فكري معين، والالتزام به. وقد ركَّب الراحل مُجَملَ أعماله في قراءة التراث، وبناء أسئلة الحاضر العربي في الثقافة والسياسة، بروح تتسم بتفاعلٍ كثيرٍ مع مقتضيات التحول التي تعرفها المجتمعات العربية.
وتتمتع خطاطة واجهة المعارك التي بلورها الجابري، في نقده العقل السياسي العربي، اليوم، براهنية تفوق ما كانت تتمتع بها، عند صدورها قبل ربع قرن، ذلك أن معارك مأسسة المجتمع والدولة، وما يرتبط بها من تحولات، تدعونا إلى مواصلة التفكير في كيفيات توطين قيم المواطنة والحرية في مجتمعاتنا.
وإذا كان مصنف الجابري ورد في استطلاعات الرأي، المشار إليها، فإننا نعتبر وروده بمثابة أفقٍ، يدعونا إلى إتمام المعارك التي اجتهد في بلورة تصوراتٍ، تسعف بتعقلها وتجاوزها. فالتحولات العاصفة التي تجري، اليوم، في بلدانٍ عربيةٍ كثيرة، تدعونا إلى مساءلة هذا المشروع، والتفكير في القيم والمبادئ التي حرص على تبنيها، والدفاع عنها، بحماس وعنفوان كبيرين.
يلفت الانتباه في العمل، اعتماد صاحبه على تحليل مادةٍ، تتعلق بعملية استطلاع للرأي، تم إنجازها في مجتمعات اشتعل فيها الحراك الاجتماعي، ويتعلق الأمر بتونس ومصر والمغرب والأردن. فقد سُئِل شباب من المنخرطين في تأطير انفجارات 2011، عن المرجعيات الفكرية التي ساهمت في تكوين تصوراتهم السياسية، وتطلعاتهم للتغيير السياسي في مجتمعاتهم، فأشار أغلبهم إلى بعض أعمال محمد عابد الجابري، مع عناية خاصة بالجزء الثالث من "نقد العقل العربي"، أي "العقل السياسي العربي".
نقرأ في هذا المعطى شكلاً من أشكال قدرة بعض النصوص على تحقيق نمط من التفاعل مع أسئلة الإصلاح والتغيير في مجتمعاتها. ونتصور أنه لا يمكن الفصل بين هذا الكتاب للجابري وباقي أعماله ومواقفه، مع عدم إغفال الإشارة، في الوقت نفسه، إلى مزايا في هذا الكتاب، وخصوصاً، درجة وضوحه، ونوعية الخيارات السياسية الحداثية التي ركَّبها، فقد كان لتجربة الرجل، وانخراطه في العمل السياسي، ما منح عمله في هذا النص كثيراً من القوة والفعالية.
يستوعب نص "العقل السياسي العربي"، الصادر سنة 1990، جملة مواقف ومفاهيم، تضع يدها على جوانب مهمة من إشكالات الثقافة السياسية، في فكرنا المعاصر، كما يستوعب جانبا مهماً من جوانب دفاع الجابري عن الحداثة والتحديث. ويمكن أن نشير هنا، أيضاً، إلى أن الجابري تخلى في هذا النص عن احترازاتٍ كثيرة، أَلِفَ التوقف عندها في بعض مصنفاته الأخرى، عند مواجهته بعض أسئلة الفكر السياسي العربي. وعمل في هذا المصنف على توجيه سهامه النقدية للأطر الصانعة للتقليد السياسي العربي، وتوقف، في خاتمته، أمام المعارك المطلوبة، من أجل التمكن من تقليص هيمنة العقل السياسي التقليدي في المجتمعات العربية.
الواجهة الأولى هي واجهة العمل من أجل تجاوز بقايا القبيلة في الواقع العربي، ببناء مؤسسات المجتمع المدني، فلا يمكننا تجاوز قيود الماضي، المجتمعية والفكرية، إلا بتجاوز كل بقايا المجتمع القبلي في الواقع العربي، ولن يتأتى ذلك، إلا بتدعيم كل ما يساهم في مأسسة المجتمع العربي، وترسيخ قيم المواطنة داخله.
الواجهة الثانية تتعلق بالغنيمة، ويدافع الباحث فيها عن ضرورة ولوج باب الحداثة الاقتصادية، من أجل اقتصاد عربي عصري، يواكب متطلبات المجتمع، ومؤسساته المدنية، ويواجه مختلف مظاهر التبعية الاقتصادية، القائمة في أغلب البلدان العربية. المعركة الثالثة معقدة، وهي معركة فتح باب الاجتهاد على مصراعيه أمام الفكر الحر، ويجب أن تخاض في نظره، ببسالة وجرأة، للتمكن من تعويد الأذهان في المجتمع العربي على قبول مبدأي الاختلاف وتعدد الرؤى والاختيارات الفكرية والعقائدية في المجتمع.
وفي نظرنا، هذه المعارك الثلاث، وعلى الرغم من أنها جاءت في صيغ مكثفة، ومختزلة، في النص، وفي خاتمته بالذات، فإنها كشفت عن جوانب أساسية من خيارات الباحث، كما كشفت جوانب من المخاضات السياسية التي تعتمد المجتمعات العربية.
لا جدال، هنا، في وضوح خطاب الجابري، حيث تستوعب خاتمة كتابه بياناً قوياً، يتم الانحياز فيه للخيارات الفكرية التحديثية، ذلك أن العمل من أجل مجتمع مدني، ومن أجل اقتصاد عصري، ثم من أجل حرية الرأي والعقيدة، يوضح جانباً مهماً، في خلفية القراءة النقدية الناظمة لهذا الكتاب.
وإذا كان في وسعنا أن نقول، هنا، إن أعمال الجابري قدمت، وما تزال تقدم، نموذجاً للمثقف المنخرط في مجابهة أسئلة ثقافته ومجتمعه، بالصورة التي تقضي ببناء خيارٍ فكري معين، والالتزام به. وقد ركَّب الراحل مُجَملَ أعماله في قراءة التراث، وبناء أسئلة الحاضر العربي في الثقافة والسياسة، بروح تتسم بتفاعلٍ كثيرٍ مع مقتضيات التحول التي تعرفها المجتمعات العربية.
وتتمتع خطاطة واجهة المعارك التي بلورها الجابري، في نقده العقل السياسي العربي، اليوم، براهنية تفوق ما كانت تتمتع بها، عند صدورها قبل ربع قرن، ذلك أن معارك مأسسة المجتمع والدولة، وما يرتبط بها من تحولات، تدعونا إلى مواصلة التفكير في كيفيات توطين قيم المواطنة والحرية في مجتمعاتنا.
وإذا كان مصنف الجابري ورد في استطلاعات الرأي، المشار إليها، فإننا نعتبر وروده بمثابة أفقٍ، يدعونا إلى إتمام المعارك التي اجتهد في بلورة تصوراتٍ، تسعف بتعقلها وتجاوزها. فالتحولات العاصفة التي تجري، اليوم، في بلدانٍ عربيةٍ كثيرة، تدعونا إلى مساءلة هذا المشروع، والتفكير في القيم والمبادئ التي حرص على تبنيها، والدفاع عنها، بحماس وعنفوان كبيرين.