الثورة وقضية الحرية

الثورة وقضية الحرية

11 مارس 2015
حين يثور الشعب (Getty)
+ الخط -

لئن كان ثمة أناسٌ محرومون من الحرية، فهم معارضو النظام من إسلاميين وماركسيين وبعثيين غير موالين لنظام حافظ الأسد، الذين عُرفوا باسمي الشباطيين، نسبة إلى شهر فبرابر/شباط، وبعث العراق. هؤلاء حرموا من الحرية. إذ قُتل فريقٌ منهم، وأُلْقي الباقون في غياهب السجون لآجال لها بداية وليس لها نهاية، وما عدا هؤلاء كان بإمكان المواطن السوري أن يمارس حريته بشكل مقبول. 

ومع ذلك ارتدت الثورةُ السورية، منذ بداياتها، ثوب "الحرية"، وأضافوا عليها بنداً معنوياً آخر هو (الكرامة) بدليل أنّ الرجال الذين هتفوا في أول مظاهرة خرجت في سوق "الحريقة" بتاريخ 17 فبراير 2011، كانوا يهتفون، "الشعب السوري ما بينذلّ".

لو استعرضنا الآن الأعراض الرئيسية لنظام حافظ الأسد (ووريثه) لوجدنا أنها تتلخص في:
1- سيطرة الأسرة الحاكمة والمخابرات والحرس الجمهوري على سورية بالكامل، وتكريس مبدأ عبادة الفرد.
2- تسليم مقدرات البلاد الاقتصادية لتروست عائلي يقوده رامي مخلوف. ومنع السوريين أو غير السوريين من الاستثمار في سورية، إلا إذا قبلوا بإعطاء حصة (خوّة) لمؤسسة المخلوف الرئاسية.

3- التركيز في الواجهة السياسية على حزب البعث الذي تتبع له بضعة أحزاب يسارية وقومية مدجنة هزيلة سميت "الجبهة الوطنية التقدمية"، ومنع أي نشاط أو حزب أو تجمع أو تكتل سياسي آخر، وإن ظهر شيء من هذا القبيل فالتنكيل به حتى الزوال.

4- وجود دستور يعطي لرئيس الجمهورية صلاحيات غير محدودة، وقوانين قمعية إرهابية تحكم على غير الموالين للنظام بالموت، وتمنع مساءلة المجرمين الذين يقتلون الناس تحت التعذيب، أو معاقبتهم.

5- طائفية واضحة لكنّها غير معلنة، إذ يضع النظام المفاصل الأساسية للدولة في يد الطائفة العلوية، تساعدها، في الدائرة الثانية، تشكيلة من الأديان والطوائف الأخرى.
6- سيطرة المخابرات على القضاء، وتركيز الإعلام في يد النظام، وخنق حرية الصحافة للإبقاء على الجماهير في حالة رعب دائم، وتخدير.


هذه الأعراض تعطينا نتيجة واضحة، أنّ الأسباب الرئيسية للثورة، هي غياب الديمقراطية. ومن ثمّ فإن تركيز الثوار على الحرية والكرامة ما هو إلا خطأ منهجي، أو، ربما كان أمراً مقصوداً من قبل الجماعات الإسلامية التي تشتغل على أجندتها الخاصة.

تأخرت مدينة إدلب عن الالتحاق بالثورة، وكنت أحس بالشباب يتحرقون قهراً وهم يرون الاستعدادات الأمنية لمواجهة أية مظاهرة محتملة تكبر وتتغول، وعناصر المخابرات والشبيحة الموالون للنظام راحوا يتغلغلون بين الناس، وفي الجوامع، وخصوصاً في أيام الجمعة، واحتمالات الثورة أخذت تتراجع، إلى أن جاء يوم وقف ثلاثة شبان، بعد صلاة الجمعة، في جامع شعيب، وصاحوا: حرية، حرية.. "وعينك لا ترى إلاّ النور، إذ ما عاد أحد يعرف من أين تنهال عليهم اللكمات والرفسات مترافقة مع عبارة: اخرسوا ولاك.. نحن ما بدنا حرية"!

ومن هنا أصبح التحدي يتمثل في كسر حاجز الخوف عند شباب مدينة إدلب، والخروج في مظاهرة، دون جدوى. فقد جن جنون عناصر المخابرات والشبيحة. حتى جاء يوم تمكن فيه حوالى ثلاثين شاباً من الخروج في مظاهرة، وقد شوهدوا وهم يمشون كما لو أنّهم في جنازة، ويلتفتون نحو الشبان الواقفين بجانبي الطريق ويقولون لهم: لا تخافوا، أوصينا لأجلكم على جَزَر! (يعتبرونهم أرانب).

امتنع النظام السوري عن إجراء أي إصلاح حقيقي يؤدي إلى امتصاص نقمة الناس الذين طالبوا، في البداية، بالإصلاح، واعتمد على الحل الأمني بصفته خياراً استراتيجياً، ووحيداً.

وهذا الأمر يمكن تفسيره بكون نظام الأسد يقوم، برمته، على الفساد. حين كنا نتظاهر في إدلب، كنا نرى سيارات الإطفائية تصوب خراطيمها على المتظاهرين، وعناصر حفظ النظام مسلحين بالبنادق التي تقذف القنابل المسيلة للدموع.

ثمّ أخذت الأمور تتصاعد، حتى أصبح إطلاق رصاص الكلاشينكوف على المتظاهرين أمراً روتينياً، وسرعان ما استخدمت الرشاشات الأوتوماتيكية، والمدفعية، والطيران الحربي، والصواريخ البالستية، وتسلح قسم كبير من الثوار، وانفتحت الساحة السورية للمتطرفين الشيعة والسنة، واتخذت الثورة، بشكل ما، شكل حرب أقرب ما تكون إلى الحروب الطائفية. حرب تكاد، مع بداية سنتها الخامسة، أن تدمر البلاد، وتقضي على المجتمع السوري، قضاء مبرماً.

لم يترك النظام سلاحاً لم يستخدمه في سبيل القضاء على الثورة، وضمن ذلك الكيماوي، وشن، ولا يزال يشن، مع حلفائه، حرباً إعلامية مدمرة، حاول من خلالها طمس فكرة الثورة من الأذهان، وتلخيص ما جرى على أنه عبارة عن مؤامرة وإرهاب.

الجهاديون الإسلاميون السوريون منهم، والذين دخلوا سورية بحجة الدفاع عن السوريين، لم يقصروا في تخريب الثورة، مادياً ومعنوياً وإعلامياً، فقد ألغوا مصطلح الثورة واستخدموا مصطلح "الجهاد"، والثوار صاروا مجاهدين، والنظام المجرم الذي يقتل الشعب بالبراميل، ويميت المعتقلين تحت التعذيب؛ اختصروا اسمه ليصبح النظام (النصيري)! والإيرانيون الذين يدعمونه عبارة عن فرس ومجوس. أمّا كتائب المجاهدين فتحمل أسماء الصحابيين والصحابيات، ولا توجد أسماء ذات مدلول وطني سوري.

إنّ السبب الرئيسي لهذه التطورات الدراماتيكية التي شهدتها سورية، بعد أربع سنوات من عمر الثورة، برأيي، هو عدم الاتفاق بين السوريين على أسس نظرية واضحة للثورة، أسس يكون في مقدمتها تبني شعار الديمقراطية صراحة، باعتباره الخطوة الأولى الصحيحة في هذا السياق. وأنّ الشعب الذي ثار على النظام الاستبدادي العاتي لن يقبل، كذلك، بحكم الجهاديين من تنظيم القاعدة، بدليل المظاهرات التي خرجت ضد جبهة النصرة في غير مكان من سورية، وأنّ الشعب سوف ينتصر في المحصلة، وسيكون هنالك جيل جديد متميز قادر على بناء سورية جديدة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.

المساهمون