الثورات العربية "رفضاً عظيماً"

الثورات العربية "رفضاً عظيماً"

10 نوفمبر 2019
+ الخط -
افتتح العالم العربي العام 2011 بالموجة الأولى من الثورات التي لم يخيّم شبحها على المنطقة قبل وقوعها، بل بدت كأنها تولد كاملة، ثوراتٍ بلا بروفات، بلا مقدّمات، بلا أيديولوجيا مسبقة ترسم ملامحها، بلا توسّل لنماذج أخرى من الثورات، ثورات بأساليب وأسباب محلية، سرعان ما تحوّلت إلى وصفةٍ عامة أساسية، أخذت في كل مكانٍ وصلت إليه سماتٍ محلية. وسرعان ما انقضّت الثورة المضادة على المنجز الثوري، وادّعت أن الثورات العربية منتج للخراب في المنطقة، كمؤامرة خارجية. اعتبر معادو الثورات أنها أنتجت النماذج الأسوأ للخراب في سورية وليبيا واليمن، واعتبروا أن هذه النماذج يجب أن تكون رادعا للشعوب الأخرى عن الاحتجاج، حتى لا يُخرّبوا بلدانهم. 
لأن الأوضاع في البلدان العربية لا يمكن التعايش معها، وبات الثائر عليها لا يخسر سوى قيوده بعد كل الخراب الذي أنتجته هذه السلطات في بلادها، كان لا بد من الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي، انطلاقاً من السودان والجزائر، وصولاً إلى العراق ولبنان اليوم.
وتمثل موجتا الثورات العربية تحولاً حاسماً في تاريخ المنطقة، تحولاً بدا حلماً بعيد المنال قبل 
عقد. لقد سار التاريخ في الدول العربية في خطوطٍ متعرّجة، وصولاً إلى الانفجار. لم تولد هذه الثورات كقوة سياسية تتحدّى أنظمة الطغيان التي أعدمت السياسة في بلدانها أصلاً، بل ولدت كقوة شاملة للمجتمع تجتاح الطغيان، ولدت كتسونامي أخذ يقتلع أنظمةً بدت، عقودا، عصيةً على الاقتلاع. إن تحولاً زلزالياً حدث ويحدث في المنطقة، ولن يقتصر هذا على اقتلاع سلطات ومفاهيم سياسية فحسب، بل سيقتلع مفاهيم ثقافية وقيما أخلاقية أيضاً كرّستها وتلاعبت بها سلطات الطغيان.
ظهرت "الاستمرارية المزيفة" للطغاة وكأنها أغلقت تاريخ المنطقة، وأن الطغاة حازوا كل شيء، والتاريخ وصل إلى نهايته. كانت التغيرات العميقة تجري تحت القشرة الكاذبة لاستقرار القبور. لذلك، انعطفت صناعة التاريخ إلى مكانٍ آخر، مكانه الطبيعي، البشر الذين ألغاهم الطغيان، البشر الذين راكموا "الممارسات الخرساء" المعارضة التي أعادتهم إلى مكانهم في صناعة الفعل الاجتماعي والسياسي والتاريخي، والذين بدوا كأنهم عادوا من العدم، ليحتلوا الميادين والحقل السياسي العام، ويستعيدوا حقهم في صناعة واقعهم السياسي/ التاريخي.
عندما خرج مواطنو بلدان الثورات العربية من الخرس إلى الكلام، قالوا أبلغ الكلام، وصنعوا أعظم الأفعال، قاموا بالثورة الأكثر نقاءً بالمعنى الإصطلاحي لصناعة حياة جديدة. اجتاحت ثورات الشباب تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن، لتقيم واقعاً جديداً يعيد ترتيب المنطقة ومحيطها. ما جرى ويجري ليس ثورةً على الاستبداد العربي الذي طال عمره أكثر مما ينبغي، ليس ثورةً على مستوى السياسة فحسب، بل ثورة على مستوى القيم، وإنْ تعثرت الثورات بعض الوقت، لا تمكن إعادة الأوضاع إلى الوراء، العالم العربي القديم مات وبات مطلوبا دفنه.
ثمّة مجتمع عربي جديد يولد من حلم الحرية، الحلم الذي دفع سابقاً ويدفع اليوم الملايين إلى الشوارع، في تحدٍّ لطغيان السلطات العربية وتغولها. لقد دفع حلم التغيير ملايين الشباب إلى الشوارع، وأصاب الحلم باقي المجتمع بالعدوى، على الرغم من كل الدم المسفوك. نزل الجميع إلى الشارع، ليحولوا الحلم إلى واقع، في مواجهات إبداعية للخروج من الانسداد التاريخي الذي صنعه الاستبداد.
نمت قوى التغيير الجديدة في ظل واقع راكد، القوى الجديدة التي استعادت الحلم ونفذته بأدواتٍ مختلفة، لكنها أدواتٌ فعّالة، أعادت المعاني إلى الحقل السياسي، إلى الميدان العام، حولت "الممارسات الخرساء" المعارضة إلى قدرة هائلة على التعبير وتفكيك كل أدوات وترسانة القمع التي وظفها الطغيان لقمع المجتمعات عقودا، لم تتلعثم الاحتجاجات، امتلكت بلاغتها من امتلاكها المطالب المحقّة التي تم انتهاكها عقودا طويلة.
أعادت الثورات الجديدة في العالم العربي نقاش الغايات، ووضعته على سلم أولوياتها. لا تكفي 
معرفة ما يجب هدمه فحسب، بل يجب معرفة ما يجب بناؤه بديلا أيضاً. ما بات واضحاً أن القضية، ببساطة، ليست وجود حرية شكلية، بل مضمون هذه الحرية. هل تكتسي المضمون الذي يصنع واقعاً جديداً، يستحق لقبه، أم تتحوّل القضية إلى ممارسة شكلية، تترك الأعماق، خوفاً من فتح الصناديق المظلمة.
ما يجري في العالم العربي ينطبق عليه ما سمّاه هربرت ماركيوز "الرفض العظيم"، وهذا هو الاحتجاج ضد القهر والطغيان غير الضروري لحياة البشر. وهنا الرفض لا يكفي، لأننا نحتاج لصناعة المجتمع الجديد، من أجل ضرورة قصوى من الحرية "أن نحيا من دون قلق". لا شك في أن هذا هو الحلم الذي خرج الملايين من أجل تحويله إلى واقع في العالم العربي. وتأسيس المجتمع الجديد هو على الدوام تأسيس لشبكة علاقات وحقل سياسي على أسس وقواعد جديدة. إنه تأسيسٌ لدلالاتٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ وسياسيةٍ مختلفة، إنه إعادة الروح إلى المجتمع الذي سُرقت روحه خلال عقود الطغيان. يمكننا، بل علينا إنتاج عالم جديد من الدلالات. لأن المجتمع يؤسّس في كل انقطاع تاريخي عالمه الجديد، وهذا العالم الجديد يجب أن يُؤسّس على شبكة علاقات جديدة وعلاقات قوة جديدة، ليس الاستبداد جزءاً منها، على المجتمع الجديد إيجاد ثقافة ترذل ثقافة الاستبداد والتبعية التي حاولت السلطات تكريسها لديمومة تسلطها إلى الأبد. للمجتمع الجديد عالم الدلالات خاصته، هو ذلك المجتمع الذي يصنع القطيعة التي بموجبها ينبثق السياسي، الاجتماعي، التاريخي من داخل الشبكة الاجتماعية وعلاقات القوة الجديدة، التي عنوانها الحرية، وما يترتب عليها من حقل سياسي اجتماعي جديد، وهو ما يخلق في نهاية المطاف الإنسان العربي الجديد، الذي يصنع نفسه عبر التعميد الذي تنتجه دلالات القطيعة التاريخية التي يحتاجها الواقع العربي اليوم أكثر من أي شيء آخر. ولأن "الأسوأ ممكن دائماً"، فإن صناعة الواقع الجديد، معركة طويلة الأمد، لا تختصرها لحظة إطاحة الطغيان، بل تحتاج إلى حماية الحرية التي تولد في لحظة المواجهة، ولكن التي يمكن الانقضاض عليها بعد زخم لحظة التحدّي، وتراخي إرادة من صنعوا حرية بلدانهم، كما جرى للموجة الأولى للثورات العربية. لذلك لا يمكن مغادرة الميدان العام بعد احتلاله، على الجميع أن يبقى هناك، ليصنعوا حريتهم بصناعة واقعهم الجديد ويحصّنوها، لتكون منجزاً نهائياً غير قابل للانتكاس.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.