الثقب الأسود العالمي

الثقب الأسود العالمي

25 يناير 2020
+ الخط -
أطفالٌ جوعى في لندن! ليست إشاعة، بل هو واقعٌ حقيقيٌّ يتكرّر النقاش حوله مرارا بكل موسم للإجازات، فنسبةٌ معتبرةٌ من الأطفال يعتمدون، في غذائهم، على الوجبات المدرسية المجانية، ويتعرّضون للجوع في فترات انقطاع الدراسة بسبب فقر أسرهم. قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) في 2019 أن نحو 19% من الأطفال في المملكة المتحدة يعيشون مع بالغين يكافحون من أجل توفير الطعام، بينما قال تقرير لجنة برلمانية إن واحدا من كل خمسة أطفال في بريطانيا ينشأون في عائلاتٍ لا يمكنها شراء ما يطيب لهم من الطعام... يحدث هذا في أحد أغنى الدول، والتي يمكن أن تمشي في عاصمتها في شارع يبلغ حجم تعاملاته المالية مليارات الدولارات. 
من هذا المنظور، نقرأ تقرير مؤسسة "أوكسفام" الأخير، والذي ينضم إلى التحذيرات العالمية المتسارعة من "اللامساواة". يحفل التقرير بأرقام صادمة. عدد من يملكون أكثر من مليار دولار في العالم هو 2153 شخصا، يملكون أكثر مما يملكه ثلثا العالم، أي 4.6 مليار إنسان. أما أغنى 1% من البشر فهم يملكون ثروة تفوق 92% من البشر! وفي أحد أمثلته الصادمة، يوجه التقرير حديثه إلى الفرنسيين: "إذا كنت توفر 8 آلاف يورو (9 آلاف دولار) يوميا منذ اقتحام سجن الباستيل، عام 1789، فإنك لن تجني أكثر من 1% من ثروة الملياردير الفرنسي برنار أرنو".
جانب رئيسي من انعدام المساواة هو التشريعات التي تسمح للأغنى بكل أنواع "التهرّب الضريبي" داخل القانون. يمكن لدهاقنة مكاتب المحاماة والمحاسبة الدولية إيجاد أنماط عديدة لهذه العملية، أبسطها نقل مقرّات الشركات وأماكن أرباحها إلى الملاذات الضريبية. سخر الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في العام 2009، من أن مبنى واحداً في جزر الكايمان سُجلت عليه 12 ألف شركة: "إما أن هذا أكبر مبنى في العالم، أو أنها أكبر عملية احتيال ضريبي في العالم". وفي واقعة أخرى مثيرة للجدل السياسي على أعلى المستويات في بريطانيا، كشف تحقيق استقصائي أن شركة "نيرو" العملاقة تمارس شبكة من الألعاب المحاسبية تصل إلى أن مبيعاتٍ تجاوزت ربع مليار دولار لم تربح سنتاً واحداً في المملكة المتحدة.
نزاع أوروبي آخر يدور حول شركة فيسبوك العملاقة، حيث تحول كل عملياتها الدولية خارج أميركا إلى مقرها منخفض الضرائب في إيرلندا، بينما تتخذ "غوغل" بدورها إجراءات مشابهة. وبينما يزداد تركّز الثروة، ويزداد أيضاً تجنّب دفع ضرائبها، وتزداد في خط مواز نسبة المتضرّرين من عامة الناس، فإن الحكومات تواجه مشكلات حقيقية في الوفاء بالتزاماتها. أسفرت خطط التقشّف البريطانية في السنوات الأخيرة عن تدهور عام في القطاعين، الصحي والأمني. خسرت الشرطة البريطانية آلاف الوظائف، وهو ما انعكس فورا على عدد الدقائق التي تستغرقها الشرطة للوصول إلى أماكن الحوادث، وبالتالي زيادة الموتى في وقائع الطعن بشكل خاص التي تحولت "همّا لندنيا" مؤرّقا.
تتحول اللامساواة ثقبا أسود يلتهم ببطء المكتسبات الديمقراطية والليبرالية التاريخية. يتصاعد الزحف اليميني على أنغام لوم المهاجرين على فقد الوظائف، وكذلك تتصاعد النزعات الوطنية على خلفية سياسات حمائية لتجنّب فاقد الوظائف لصالح الصينيين والهنود وبنغلادش، حيث تستقر مصانع الشركات الأكبر. يستمر السياسيون في لعبة "الباب الدوّار"، فيغادرون السلطة لينعموا بمرتبات خيالية بمقاعد مجالس إدارات الشركات، أو يغادرون الشركات إلى السلطة.
وبالطبع، تزداد في بلادنا ضخامة آثار هذه الهموم الغربية، سواء بفعل الممارسات المحلية الشبيهة غير المكبوحة، أو بفعل التدخل الغربي المباشر إفساداً للنخب المحلية. حققت ألمانيا في فضيحة رشاوى شركة مرسيدس، كما تحقّق إسبانيا حاليا في فضيحة كبرى أخرى حالياً. ولكن الديمقراطيات الغربية الراسخة تنتج ردّات فعل ومقاومة، ولو من قلب المؤسسات الرأسمالية نفسها. ناقشت المفوضية الأوروبية مشروع قانونٍ لفرض ضرائب على "فيسبوك" و"غوغل" محليا، بل ذهب وزير المالية الفرنسي إلى مدى اعتبار هذا الإجراء الأوروبي المفترض مؤقتا إلى حين إيجاد حل عالمي. يطرح مرشحو رئاسة أميركيون "ضريبة الثروة" بصراحة. وعلى الرغم من أنها ما زالت حلما بعيدا، لكنها دخلت بالفعل الخطاب السياسي الرئيسي. لعل بداية حل عالمي تكون بدايةً لحل عربي أيضا.