الثقافة السياسية بين المفهوم والممارسة... عين على العرب

الثقافة السياسية بين المفهوم والممارسة... عين على العرب

20 يوليو 2019
+ الخط -
تعد الثقافة السياسية من أهم ركائز علم الاجتماع السياسي، وباتت دراستها اليوم ضرورية أكثر من أي وقت مضى، نتاج حالة عدم الاستقرار السياسي الذي يشهده العالم بشكل عام والدول العربية بشكل خاص، وأيضاً نظراً لغياب قاعدة ثقافية سياسية جماهيرية تتكفل بخلق حالة من الانسجام بين النظام والشعب، أو بين الحاكم والمحكوم.

يمكن القول إنه عند الإلمام بمفاهيم الثقافة السياسية وعناصرها وتراكيبها ومن ثم كيفية ممارستها داخل المجتمع، هنا نكون أمام مبشر جيد ونكون قد حصلنا على قاعدة متزنة تخلق بدورها حالة من الاستقرار المجتمعي وتكوين للذات الفردية والإحساس بالهوية الوطنية. وبالتالي، فإن وصول الفرد لهذه الحالة وامتلاكه لكل مكونات الثقافة السياسية، بديهيا تتشكل لديه الرغبة الملحة في المشاركة السياسية على مستوى اتخاذ القرارات والسياسات ذات العلاقة بالنظام السياسي. وفي ظل هذه الدراسة لا يمكننا غض البصر عن الواجبات الواقعة على عاتق النظام السياسي، مثل توفير البيئة الخصبة للمواطن لكي يشعر بكينونته، وأن تضمن له الحرية الفكرية وآلية العمل والمشاركة الشعبية في سياسات الدولة وقضايا المجتمع، فمن هنا نضمن وجود حالة الانسجام التي نتحدث عنها بين الطرفين.

أولا: مفهوم الثقافة السياسية 

قد يمكننا القول إن مفهوم الثقافة السياسية من المفاهيم التي لاقت جدلاً كبيراً من حيث آلية التعريف بين صفوف العلماء والباحثين نظراً لارتباطها بتراكيب مجتمعية واسعة. إلا أننا من الممكن أن نجمع كل ما هو متفق عليه من جموع الباحثين والمختصين، ونقول إن الثقافة السياسية: "هي عبارة عن توجهات وآراء ومعتقدات مبنية على عناصر وتراكيب تتحدد من خلال النظام الحاكم ومكونات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدين. وهي بدورها قادرة على تحليل وتفسير كيفية التفاعل بين المكونات المذكورة ومدى تأثيرها على المعرفة والإدراك وممارسة السلوك السياسي".

ومن الجدير ذكره أنه يعود الفضل في ظهور مفهوم الثقافة السياسية بالدرجة الأولى إلى المدرسة السلوكية التي بذلت جهدا كبيراً لتطويره بهدف تفسير جوانب كثيرة من النظم السياسية، ومن ثم تبنته المدرسة التنموية، كأحد العناصر الأساسية لتمييز مراحل نمو وتطور النظم السياسية وانتقالها من نظم تقليدية إلى أخرى حديثة.

وعلى الرغم من أن مصطلح الثقافة السياسية من المصطلحات الحديثة نسبياً، ولم يكن حتى وقت قريب ذائع الانتشار في العلوم الاجتماعية والسياسية، إلا أنه في بدايات العقد السادس من القرن العشرين أخذ في الانتشار من خلال الاعتماد عليه لتفسير السلوك السياسي للأفراد في إطار النسق السياسي. بينما عرفه دونالد ديفين أن الثقافة السياسية ليست هيكل ثقافة المجتمع وإنما هي الجانب السياسي من ثقافة المجتمع. أما لوسيا نباي فقد عرف الثقافة السياسية على أساس إنها التاريخ الجمعي للنظام السياسي، ولتاريخ حياة الأفراد الذين يكوّنونه.

ثانياً: متغيرات الثقافة السياسية وتأثيرها على السلوك السياسي

إن السلوك السياسي يعتبر نمطاً من أنماط السلوك الاجتماعي، إلا أنه يركز على النشاطات والفعاليات المتعلقة بحكم وقيادة وتنظيم وتنسيق المجتمع، بغية تحقيق أهدافه وإشباع طموحات وتطلعات أفراده بشرط أن تنسجم هذه التطلعات والطموحات مع طبيعة النظام الاجتماعي التي تحاول القيادة تعزيزه والحفاظ على نهجه من أي خطر داخلي أو خارجي والعمل أيضاً على تطويره خدمةً لأهداف النظام الاجتماعي.

لو أتينا لنمعن النظر في طبيعة العلاقة ما بين الثقافة السياسية والسلوك السياسي لوجدنا أن هناك علاقة تكاملية بين المفهومين لا يمكن أن نجرد أحدهما عن الآخر .. أي أنه أي سلوك سياسي يكون ناتجاً عن ثقافة سياسية إجتماعية، وأن من مخرجات هذه الثقافة يتكون السلوك .. فبعد التعريف العام للسلوك السياسي وبيان طبيعة علاقته بالثقافة السياسية، ببساطة تامة نأتي لنقول إن السلوك السياسي الذي يمارسه الفرد أو الجماعة يكون ناباًع من خلال مفاهيم الثقافة السياسية لدى مجتمعه، ولا يمكن تبرير هذا السلوك في نطاق يخرج عن دائرة ثقافته السياسية والاجتماعية. فهذه حقيقة لا يمكن الفرار منها، فإذا تم تبرير السلوك بخلاف ما تم ذكره، نكون قد ارتطمنا بمفهوم "الأجندات الخارجية" لأنها هي الوحيدة القادرة على تسييس الفرد أو الجماعة لممارسة سلوك خارج عن ثقافتهم.

عندما نأتي للحديث عن النظام السياسي ودوره في مسألة ضبط السلوكيات، فحينها يمكننا القول إنه من المفترض على أي نظام سياسي نشر قاعدة ثقافية وقيمية ملموسة على أرض الواقع يتأثر بها الفرد أو الجماعة، علماً بأن أي سلوك سياسي يظهر يكون نتاج مجموعة من القيم الإنسانية والأخلاقية والثقافية والذي يقع عاتق تصديرها للمجتمع هو النظام وهذه مسألة متراكمة عن تجربة الشعوب عبر التاريخ .. فكلما زاد الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي تراكمت القيم والسلوكيات السياسية الأكثر أخلاقاً لدى المجتمع. ومن هنا يمكنني تعزيز ورقتي فيما طرحت أن الثقافة السياسية بدورها الفاعل تؤثر على الحياة السياسية والسلوك السياسي عامة وعلى النظام السياسي بشكل خاص، لذلك فإن القوى السياسية المختلفة بما فيها قوى النظام السياسي تعمل على تحريك وصياغة مواقف المواطنين والأفراد انطلاقاً من المعطيات الثقافية السائدة في المجتمع ومدى تأثيرها في سلوك المواطنين والأفراد والجماعات، وأن كل ما تم طرحه يتوقف نجاحه على وجود تنشئة اجتماعية – سياسية للمجتمع موازية للثقافة السياسية التي يروج لها النظام السياسي وما دام هذا التفاعل قائم بين الحاكم والمحكوم، الحاكم بسياساته والمحكوم بنظامه الاجتماعي فهذا مبشر للسير في الطريق الصحيح حيث التقدم والنهوض والازدهار.

ثالثًا: الثقافة السياسية والمناداة بالتحول الديمقراطي 

بعد انتهاء الحرب الباردة وظهور النظام العالمي الجديد في بداية العقد الأخير من القرن العشرين، شهد العالم اتجاهاً متزايداً نحو الديمقراطية، ولعل من المفارقة الواضحة أن رياح التحولات الديموقراطية تبخرت على حدود العالم العربي ... لتفسير هذه الحالة يمكن لنا اللجوء لعمل تحليل مقارن بين نظير العالم العربي في هذه المسألة أي العالم الغربي .. كيف استطاع صياغة مفهوم الديمقراطية؟ وما مدى استقبال الفكرة لدى الفرد الغربي وفقاً لمفاهيم الثقافة السياسية ومتغيراتها، ففي مضمون هذه الحالة قد نلاقي نوعاً من الانسجام الثقافي والفكري الذي جلب أشكال الحكم الديمقراطية لتلك الدول .. فهم لم يسعوا إلى تبني الديمقراطية في الحكم فحسب، بل عملوا على إيجاد حالة من الاتزان والاستقرار يضمن بقاء الديمقراطية كأيديولوجية وحيدة للحكم.

إن مفهوم الديمقراطية ومن أجل صياغته وتبنيه يحتاج إلى الكم الكبير من الإدراك والمعرفة على المستوى المحلي والإقليمي، ودراسة مضامين وملامح المرحلة أياً كانت، وهذا بدوره لا يخرج عن دائرة الإلمام بالثقافة السياسية .. فمن الممكن أن نقول إنه عندما نستطيع تحديد الثقافة السياسية لدى المجتمع فمن هنا تتوفر لدينا القدرة على تحديد ماهية النظام السياسي لديه.. وفي ظل هذا السياق لو أتينا للحديث عن معوقات التحول الديمقراطي لدى الدول العربية في طرح عدة تساؤلات أهمها: هل كانت الدول العربية على استعداد كامل للعمل على صياغة أنظمة ديمقراطية تتربع على عروشها، نجد الإجابة عن هذه السؤال تتمحور في أن الدول العربية غير مؤهلة لصياغة مثل هذه المشاريع نظراً لحالة تبعية الأنظمة العربية للدول العظمى وغياب برامج سياسية تنادي بالحق في تقرير المصير، نظراً لوجود بعض الأنظمة الملكية أو الاستبدادية المبطنة إن أصبت التعبير.

قد لا يمكننا غض البصر عن آلية تعامل الشعوب مع مثل هذه الحالة .. ففي كل ميادين وعواصم الدول العربية، خرجت الشعوب مطالبة بإسقاط الأنظمة في حدث غير مسبوق ومنادية للديمقراطية .. هنا قد يكون تفسيري للموضوع محبطاً في بعض الأحيان .. ألم يخرج أحد من عامة الشعب يتساءل .. لماذا .. وكيف .. وأين .. ومتى .. ؟؟؟ من الهادف ومن المستهدَف بالذي يحصل طوال الفترة الممتدة من نهاية العقد الأول من القرن العشرين حتى يومنا هذا..

لماذا تعاملنا مع الأمر والفكرة بدموية على صعيد الأنظمة والشعوب ولا أبرئ أحداً.. فهل بذلك نكون قد حققنا أهداف الدول العظمى التي تسعى بدورها إلى خلق وإبقاء حالة من البلبلة والفوضى وعدم الاستقرار وذلك من خلال زج وترسيخ وترويج مفاهيم الطائفية والإرهاب وغيرها.. من الأمر المؤسف أن أقول بأننا قد حاولنا استيراد الجانب المادي لمفاهيم الديمقراطية وآلية تبنيها وتجاهلنا الجانب المعنوي الذي يعد أهم بكثير من نظيره المادي .. وتظهر حصة الأنظمة فيما ذكرت مؤخراً بعبارة وجيزة "من الممكن أن تحكم الأنظمة بديمقراطية الشعارات حيث يناهض الإنسان والعقل والإنسانية والحرية الفكرية "وهذا المادي الذي ذكرته في الوقت التي تستثني فيه المعنوي التي لربما يكون مخالف لثقافتها وفي الأخيرة لا أريد الغوص لكي نضمن حالة عدم الخروج عن النص.

في سياق آخر يقول "مالك بن نبي" (ليست الديمقراطية في أساسها تسليم سلطات تقع بين طرفين معينين، بين ملكٍ وشعب مثلاً، بل هي تكوين شعور وانفعالات، ومقاييس ذاتية واجتماعية.. تشكل مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية في ضمير الشعب قبل أن ينص عليها أي دستور)، فجميعنا يتيقن بأن الديمقراطية هي حلم كل الشعوب والتي بدورها تقوم على مبدأ سيادة الشعب أو الأمة فهذا بذاته حرية سياسية ومن هنا أختم القول بأنه لا يمكن للديمقراطية أن تفرض نفسها في مجتمع لا يحوي القليل من حرية التفكير العقلاني ويعاني من أزمة ثقافية عامة.

لعل الدراسة أظهرت مدى حاجة المجتعمات للثقافة السياسية والإلمام بتراكيبها ومتغيراتها كونها هي من تنظم عمل وسلوك وآراء الأفراد والجماعات داخل المجتمع الواحد ومدى تفاعلهم مع الأنظمة الحاكمة. ونشير إلى ضرورة خلق حالة انسجام بين الحاكم والمحكوم، ليصبحا أكثر مرونة من أجل استقبال وعمل أي برنامج ومشروع وتنفيذ أي سياسة تتناسب ومجتمعهم، فمن هذا المنطلق نضمن أن تكون وحدة ثقافية متّحدة تقف سداً منيعاً في وجه أي خطر داخلي أو خارجي من الممكن أن يهدد تلك البقعة.