التنوير والتغيير

التنوير والتغيير

29 مارس 2018
من أسباب "الربيع العربي" ما يزال قائماً (غيتي)
+ الخط -

أهداني صديق من اليمن، اسمه عبد الله محمد إسحاق، كتابه "محطات حركة التنوير الأوروبية/ الجزء الأول". ويُظهر الكتاب بشكل جلي أن حركة التنوير قامت عبر محطات، ولكل محطة فيها أبطال ثاروا على الفكر الكهنوتي السائد، بدءاً من مفهوم الثالوث إلى دخول الأستانة (القسطنطينية) عام 1453 على يد السلطان محمد الثاني العثماني، وهروب آلاف المتعلمين والمتنورين من الإمبراطورية الشرقية إلى أوروبا.

وبعدها بدأ عصر النهضة ببروز مفكرين، مثل مارتن لوثر ودانتي وبترارك وإيرازموس وسبينوزا وغيرهم. وقد أدى كل واحد من هؤلاء إلى خلخلة الفكر السائد، ما أحدث حروباً كثيرة، لكن هذه الحروب التي أخذت طابع الحرب الدينية كان لها وجه آخر اقتصادي مالي.

كانت ثورة مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكية نابعة عن بيع الكنيسة صكوك الغفران، بصفتها الوسيط بين الناس الخطّائين والوارثين للخطيئة الكبرى، بصفتهم أبناء آدم وحواء.

وقد كانت صكوك الغفران والأعمال المشابهة تدرّ على الكنيسة مبالغ طائلة جداً، وتؤدي إلى زيادة الفقراء فقراً. وقد أنكر مارتن لوثر دور الكنيسة الكهنوتي وسيطا بين عباد الله وخالقهم، انتفت معها الحاجة إلى شراء صكوكٍ يصدرها عبيد الله الآخرون.

وقد أدت هذه الثنائية بين المحتجين من أتباع مارتن لوثر (البروتستانت) والكاثوليك، إلى حرب الثلاثين سنة، في الربع الأول من القرن السابع عشر حتى منتصفه تقريباً (1618-1648)، إلى تقاسم الثروات، خصوصا بعد حركة الاكتشافات الجغرافية في نهاية القرن الخامس عشر وخلال القرن السادس عشر.



وقد أدى أيضاً إلى فقدان مدن، مثل البندقية وجنوا، أهميتها التجارية، بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح إلى الهند، وبعد اكتشاف القارة الأميركية.

وقد تأثر النظام الاقتصادي في أوروبا، وتبدلت الحظوظ إبان تلك الفترة، ومع تفوّق الملوك تدريجياً على سلطة الكنيسة، وتراجع هيئة الكنيسة ببروز حركات الإصلاح على يد لوثر وكالفن وغيرهما، ازدادت حركات التنوير، وازداد الوعي العلمي والثقافي عمقاً، ما مهّد لأوروبا لكي تدخل مرحلة الثورة الصناعية.

وفي فترة الاكتشافات، وتطور الفلسفة الداعية إلى تغليب العقل والتجريب المحسوس، ازدهرت الأبحاث العلمية. وتحولت جامعات لاهوت كثيرة في أوروبا إلى جامعة علمية، تركز على تطوير العلوم والرياضيات.

وقد تضافرت كل هذه التطورات، خصوصا بعد القضاء على مرض الطاعون، وزيادة سكان أوروبا، واكتشاف العالم الجديد، لتؤدي إلى زيادة الهجرات، وخلخلة المجتمعات الزراعية الراكدة فكراً وتنويراً.

وقد بدأت الحركات الفلسفية في التمهيد لتطوير الفكر، فأفكار "ديكارت" الإبداعية، ووضعه منهجية القياس، فتحت بوابة كبيرة على نهج علمي واسع. وقد نقل الفكر من حالة "أنا أفكر فالله موجود" إلى "أنا أفكر، فأنا موجود، فالله موجود".

وجاءت بعده المدرسة التجريبية المنسجمة مع التطور العلمي، وبرز أبطالها أمثال جون لوك، وهوبس، وباركلي، لكي يقولوا إن الحقيقة تكمن في استخدام الحواس والعقل للوصول إلى الحقائق.

وأتى بعدها الفكر البراغماتيكي، خصوصاً داخل الولايات المتحدة، والذي قال إن العبرة في النتائج وليس في التجربة فقط. ومن هؤلاء وليام جيمس، وجون ديوي، وجورج سانتيانا، وشارلز ساندرز، وغيرهم ممن جعلوا فكرة الدين فكرةً حسنةً لمن يختارها، طالما أنه يحكم المنهج العلمي في فكره ومقتربه.




وأخيراً ظهرت مدرسة الوجودية، خصوصا في فرنسا، والتي بدأت بالفيلسوف الدنماركي كيركاجارد في شمال أوروبا، وكانت وجودية دينية مختلفة في فهمها للقوة باعتبارها دافعا للسلوك الإنساني، كما فهمها الفلاسفة الألمان.

ولا تنسى بالطبع أن كل هذه التطورات قد بدأت تفضي إلى التمهيد لفلسفة الحرية والحق من مفهوم بشري، على يد الفلاسفة الفرنسيين، خصوصا جان جاك روسو وفولتير ومونتسكيو، وغيرهم. وقد مهد هؤلاء الطريق للثورة الفرنسية، وشكلوا المنطلق الفكري للثورة الأميركية.

وفي القرن العشرين، برزت فلسفات جديدة من الوجودية الملحدة، والتي وجدت في فكر كارل ماركس والثورة البلشفية في روسيا صدى مناسباً لها، ومن أبرز هؤلاء كامو، وسارتر، وجيني، وكثيرون غيرهم.

فاجأني الكاتب عبد الله إسحاق، الذي عرفته رجل أعمال يمنيا مرموقا بالجزء الأول من كتابه. ولا شك أنه يريد منه إسقاط الواقع الأوروبي، والفكر المتجدد والمتحرّر في الدين، على الوطن العربي. وهو لم يقل هذا بصراحة، لكن الواضح أن محطاته، واختباراته سرد حركة التنوير يؤدي إلى ذلك بكل جدارة.

ولنا الحق أن نتساءل: إلى أي درجة ترتبط العلاقة بين المدارس الدينية المحافظة في الوطن العربي بالحال الذي يمر به الوطن العربي، خصوصا في السنوات الأخيرة.

لقد أدت هذه الحركات التي جمعت تحت عنوان "الربيع العربي" إلى خلخلة واضحة، ليس في المجتمعات ونظرتها للحياة فحسب، ولكن في تحريك الناس، وانتقالهم من مكان إلى آخر، أو من بلد إلى آخر.

وما هي النتائج التي تمخضت عنها من حيث تحريك الفكر الراكد، إذا نظرنا إلى التجربة السعودية، فهنالك دلائل على أن تنافساً وصراعاً بدأ يبرز بين فكر جديد يريد الانطلاق وفكر يريد بقاء الحالة المجتمعية على ما هي عليه؟ وسوف يؤدي هذا بالفعل إلى حالة ازدواجية في المجتمع، كما هو حاصل في معظم أقطار الوطن العربي.

ما نراه من نتائج على التنوير العربي ليس واضح المعالم. هنالك فكر ديني متنور أكثر من الأول، هذا صحيح. ولكن هل سيستجيب له علماء الأزهر ومشهد وغيرهما من المراكز الدينية المرجعية للمذهبين الأساسيين؟

أسئلة بحاجةٍ إلى التعمق. ولعلنا لا نزال في منتصف الطريق.

المساهمون