التنمر السياسي

التنمر السياسي

21 فبراير 2017
+ الخط -

يزور ذاكرتنا جميعاً  من وقت لآخر بعضُ اللقطات المتنوعة والمتناثرة من أيام الطفولة أحياناً، ومن أيام المدرسة والجامعة أحايين كثيرة. ما يميّز هذه اللّقطات هي حمولتها النفسية والعاطفية من فرح ونشوة بلحظة نجاح، أو حزن لفراق كسر القلب أو حنين لحبٍّ قديم.

وممّا قد أصبح معروفاً للعموم أنّ ما يستدعي هذه اللقطات إلى سطح وما يثيره من مشاعر وأحاسيس مترابطة، هو عبارة عن تصادفاتٍ عشوائيةٍ في الأغلب مع أشخاص أو أماكن أو روائح، تثير في اللاوعي الفضول، وتنثر ملفاته بشكل غريب ليتمّ انتقاء ما يناسب.

فكم من انقباض بالصدر نشأ نتيجة صورة أو موقف، حتى أنك تعبّر كأنّ هذا الشخص ليس بالغريب، أو أن هذا الموقف قد مررت به سابقاً، و مما يزيد التشويش هو المشاعر الحقيقية التي تشعر بها.

من بين أسوأ اللحظات، هي إعادة استعراض مشاهد حصلت معك أو أمامك تحمل من التّنمّر و الإساءة ما تحمله لشخص أو مجموعة من الناس، بناء على لون أو معتقد دينيًّ أو خلفية ثقافية معيّنة.

التنمّر ظاهرةٌ سلوكيةٌ ملاحظة بشكل أوضح للعيان وأقرب للذهن في عمر الطفولة والمدرسة الابتدائية وحتى الثانوية. التنمّر هو سلوك نابع من عنف ومتضمّن له وشكله التقليدي، متمثّل بالعنف الجسدي.

ولكنّ هناك أشكالاً أخرى من استخدام لفظي بحمولة لا تخلو من التّهديد بالإيذاء الجسدي أو الإهانة، و التّقليل من الشأن أو حتى الابتزاز، من أجل تنفيذ أعمال تخصّ المتنمّر وترضي حاجاته و رغباته.

ومن أشكاله الجديدة استعمال الإنترنت من خلال إرسال الرسائل النصية، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي عبر خلق حساباتٍ بأسماءٍ وصور وهمية، وبذلك يبقى المتنمّر مجهول الهويّة.

التنمّر كسلوك يبدأ مع الشخص من الطفولة، وغالباً ما يمتد مدى الحياة. وله من الأسباب العديد. و ليس الشعور بالتهديد وانخفاض في مستوى تقدير الذات كما كان يعتقد، ولكن على العكس، فالمتنمر لديه من الفوقية ما تجعله يوقن أنه له الحق في التحكم والتسلط، و يدعم هذا الشعور نقص التعاطف و ضبط ردود الفعل و المهارات الاجتماعية.

في كل حالة تنمر مهما كان نوعها أو مصدرها،  فإن أكبر أذى لا يقتصر فقط على ما يصدر من المتنمّر، وإنمّا من المتفرجين الذين يشهدون ولا يحركون ساكناً، وعادةً هم من الناس غير المهدّدين بخطر هذا المتنمّر، و أحياناً يساندونه خوفاً منه. 

معظم المعالجين النفسيّين يتعاملون على الدوام مع ضحايا التنمّر بأشكاله، سواء تعرّضوا له حديثاً أو منذ زمن مضى. ولكن قليلاً ما يتمّ التّعامل مع المتنمّر بذاته عندما يحوّل من محكمة أو بشكل نادر بقرار شخصي منه والتزام بالتّغيير.

و لكن في كلتا الحالتين، فإن المعالجين مدرّبون على تمييز قدرة المتنمّرين على الإفلات بأفعالهم لوقت طويل قد يمتدّ لسنين. طبعاً يعتمد المتنمّر تكتيكات سلوكية تنفع دائماً وتخدع الآخرين ويشكّكون بحكمهم عليه على أنّه متنمّر مما يضمن له قدرته على الاستمرار في ما يفعل.

الأذى النّفسي الذي يعانيه من يتعرض بحياته لمتنمّر، سواء في المدرسة أو في بيئة العمل، يبقى معه طول الحياة، وإن تخلّص منه مؤقتاً، فإنّه يعاوده بشكل ذكريات مزعجة عند كل تجربة، مع شخص يتمتع بالعنف؛ و كأنّه أصبح أسير هذا المتنمّر مدى الحياة. فما بالك إن كان حاكم بلادك متنمّراً يمارس كلّ أنواع العنف بحيث يزرع في اللاوعي و يحيي عند المتعطشين للعنف كل النّزعات لإيذاء الآخر وتهميشه و تقزيمه.

هؤلاء الحكّام منتشرون و ما أكثرهم ويتّبعون هذه التّكتيكات و يبقون مفلتين بتصرفاتهم. على سبيل المثال وليس الحصر طبعاً، ما كان يتابعه العالم أجمعه من فوضى الانتخابات الأميركية وقذارة فضائخها و تعليقات مرشيحها المتجاوزة كلّ الأدبيات، والتي انتهت بفوزٍ صادم.


فالحاكم المتنمّر يحاول جعل ضحاياه وكلّ من والاه خدرين لهذه اللهجة التعنيفية. وهذا ما  فعله ترامب عندما استخدم تهديدات وحاول الحطّ من قدر مجموعات دينية وعرقية معينة، ثم عاد وتراجع لفظياً عن بعضه، مثل اتهامه جميع المكسيكيين بأنهم مغتصبون. ثم تراجع وقال إن بعضهم جيد ثم تباهى بتصرفاته الجنسية المُحطّة مِن قدر المرأة، ثم قال إنه يحترم النساء.


مثل هذا التلاعب الكلامي يجعل الناس يعتقدون نوعاً ما أنّه يمزح وأن من المستحيل أن يعني ما يقول من فظاعات. في هذه الحلقة المفرغة من ممارسة التنمّر يذهب شخص مثل هذا لما هو أبعد، مثل الاعتذار عن أقوال و أفعال سابقة وأنها أخطاء لن تتكرر مع الوعد بالتغيير، وهذا ما يسمى بمرحلة "شهر العسل" أو  الندم".


طبعاً من ينغمس معه في شهر العسل هذا هم المتفرجون الذين يبررون أقواله وتهديداته، قائلين إنّه لا يعني هذا وإنّ ذلك فقط ليتجاوز الانتخابات وإنّه لا يملك هذه السلطة لينفذ تهديداته. هؤلاء المتفرجون يتحولون لداعمين وكانت نسبتهم 48% وصوّتوا له و كان معظمهم نساء للمفارقة.

وعندما تغرق للحظات معه في العسل وتكاد تصدّق ندمه سرعان ما يعود ويتبع إحدى استراتيجيتين، إما تسخيف متهميه واتهاماتهم، وذلك عن طريق التقليل من حجم أخطائه أو ينتفض من جديد ولكن ليس من عنفوان، وإنّما بشكل هيستيري ليقمع ويهدد بأنّه سيقاضي من يتهمه وأنّ لديه ذاكرة طويلة ولن ينسى مهاجميه بل يتمادى للسخرية من المتظاهرين بأنهم يتظاهرون خوفاً على حيواتهم. وبين هذه اللحظة وتلك يعاود ليهادن ويعد النّاس بتلبية مطالبهم وتحقيق أحلامهم وتحسين البنية التحتية و إعادة أميركا عظيمة.

مما يطمئن في بلد قانونٍ كأميركا أنّ لا سلطة مطلقة تعطى لرجل واحد ولكن من يدري. فعلم النفس يقلّل من احتمالية التغيّر في سلوك الشّخص المتنمّر. وإذا حصل، فإنه ليس بالسريع أو السهل. لذلك فإنّه من الضروري أن لا نكون من المتفرّجين ونركن للرِضى عن سوء المعاملة و التّعنيف، بل وأن لا نتعلق بفهمنا الخاص عن الأمل بأن الأمور لن تكون بالقدر السّيىء الذي بدت عليه حتى الآن، لأنّه وفي هذه الحلقة البالية من التنمّر والعنف كل الأدّلة تدلّ على أنّها ستكون.

            

دلالات

4AE705A2-8AD2-4755-B1FA-E1101218D762
ايفانا ورد

ناشطة في حقوق المرأة ودورها ضمن مجتمع تعددي بخبرة تزيد عن عشر سنوات مع هيئات مجتمع مدني ومؤسسات حكومية وغير حكومية. معالجة نفسية متخصصة في الصدمة النفسية ومواجهة القلق والاكتئاب النفسي. تقول: "لمواجهة الاستبداد في أي مجتمع و ضمان الوصول لمجتمع ناجح لابد من التعددية الفكرية والتي هي أبعد من التعددية العرقية أو العقائدية وهي منطلق بحثي وعملي".