Skip to main content
التمثال... حين يمجّد الملك وماسح الأحذية
محمد هديب
مصادفةً، وجدت نفسي أمام تمثال لبائع بسكويت بأحد الميادين الكثيرة في غواياكيل، العاصمة الاقتصادية للإكوادور، الواقعة غرب البلاد على خليج غواياكيل في المحيط الهادي.

تحت التمثال لوحة معدنية محفور عليها اسم البائع الذي يتذكره سكان المدينة قبل رحيله، ويسمونه "ملك البسكويت". البائع الذي ينادي الزبائن لشراء بسكويته المالح المحشو بالكريمة، والذي صنعه بيديه.

ولهذا الملك طريقة فريدة في تشجيع الصبايا على الإقبال والشراء، فهو يلقي عليهن قصائد غزلية، يقول مرتادو الميدان "إنها كانت غزلية ومهذبة".

أينما وليت وجهك في الميدان ليلاً ونهاراً، لا بد أن يستوقفك هذا التمثال، وتماثيل أخرى لحرفيين بأسمائهم، اختارت غواياكيل أن تزرعها في الأماكن ذاتها، التي اعتادوا الوقوف فيها أو المرور اليومي منها.

بيد أن العربي الذي مر مصادفة، وقع سؤاله كالمطرة التي كانت تغسل تمثال الملك. أي نوع من الملوك هذا الذي يبيع بسكويتاً لذيذاً، وتجري قصائد الغزل من فمه بليل الريق؟

صحيح أن الملك والملكة والأمير والأميرة، والفارس، نموذجيون وذوو صفات محببة تتداولها حكايات "كان يا ما كان"، لكن إن جد الجد، فإن ملك البسكويت في نهاية المطاف حرفي.

نحن مغرمون بالتهوين من شأن الحرفة. بل إن التراث البدوي يعلي من شأن الفارس الشهم الأصيل، الذي يقضي حياته وهو يعطي الحقوق ويسلبها ثم يتفرغ لإطلاق الحِكم، بينما يقبع مبيّض دِلال القهوة النحاسية في آخر مراتب التقدير.

على بعد ثلاثين متراً، يقف تمثال آخر لبائع اليانصيب. ويبدو أنه مع زميله ملك البسكويت اختارا الميدان الذي لا يخلو من الزوار من حول النافورة.


ولكن مهلاً، إذا مضيت إلى الطرف الآخر من الميدان، ستعثر على تمثال المصور. ما زال في مكانه، يحضر آلته، كأنه يلتقط الصور لكل زمان، ويلتقط ما تيسر من الرزق.

وحين تخرج كلياً من الميدان، ستأخذك قدماك إلى طريق فرعي. هناك، حيث اختار الولد ماسح الأحذية مكانه المناسب، وهو التمثال الوحيد الذي يضطرك للجلوس حتى تكون بموازاة الولد المنكبّ على تلميع الحذاء.

على زاوية الشارع تمثال للولد بائع الصحف، يصوره وهو ينادي بعلوّ الصوت كي يعود إلى عائلته بمال يسير.

عرفت غواياكيل قبل أن تصبح مدينة مزدهرة، وفي عهد كانت الصحف درة العمل الإعلامي، عرفت هذه الشريحة من الأطفال الذين يبدأون البيع من الحادية عشرة مساء حتى السابعة صباحاً.

في شارع بنما الشهير ببيع القهوة والكاكاو تمثال يمجّد العاملين في هذه الصناعة. أباطرة الشوكلاطه في العالم ينظرون إلى الإكوادور بوصفها غابة الكاكاو السحرية. الكاكاو لون بشرة العمّال، والألوان المائية ترشح من الجبين.


سكان غواياكيل يستهلكون الكثير من سلطعونات البحر والنهر، وهذه حرفة شاقة عضلياً. والصيادون يبيعون السلطعونات في عدة أسواق، أشهرها سوق الكراغواي، الذي يفتح مساء، إذ يفضل الزبائن شراء ثمارهم البحرية والنهرية عند المساء.

لهؤلاء الصيادين تمثال يمجدهم على أحد مفترقات الطرق، التي كان يقطعها يومياً، واليوم، يعبر الناس بجانبه، ونداءاته حيّة في الصدور.

مررت بكل هذه التماثيل تحت المطر، المطر الذي يهطل بعدالة على أرض تحتاج دوماً للعدالة.