التلاقي والافتراق بين الحالتين السورية والمصرية

التلاقي والافتراق بين الحالتين السورية والمصرية

18 ابريل 2014

مشهدان متشابهان في مصر وسورية

+ الخط -
القمع الشديد للمظاهرات المناوئة للسلطة، وتكميم أفواه المعارضين، والمبالغة في تشويه صورتهم وشيطنتهم، وربطهم بكل شرور العالم، واستسهال قتلهم والتنكيل بهم، وقطع الطريق على أي تسويات وسطية، بالتوازي مع تقديس صورة الحاكم الأوحد، وتصويره منقذاً وبطلاً قومياً لا يأتيه الباطل من أمامه، ولا من خلفه، تلك أبرز المشتركات بين الحالتين، المصرية الراهنة والسورية منذ سيرتها الأولى.
أية مقاربة منطقيةٍ، تحاول فحص أوجه التشابه والاختلاف بين الحالتين، لا بد أن تنطلق من حقيقة أنهما ولدا من رحم واحد، حيث مطالب الحرية والتوق إلى الانعتاق من نظامٍ أحادي، مستبد ومستأثر، مع حاشيته وعشيرته، بالسلطة والثروة.
بعد ذلك، اتخذت المسارات والمآلات في البلدين أوجه تطور مختلفة، لكنها ظلت تلتقي أحياناً، وتختلف أحيانا أخرى. ولعلها تقترب في هذه الأيام أكثر، بعد الانقلاب العسكري الذي جرى في مصر، وبات يشد الحالة المصرية، بقوةٍ، إلى ما يشبه الحالة السورية.
في سورية، اعتمد النظام خياراً حاسماً منذ اليوم الأول لوقائع درعا، هو الحل الأمني، وسيلةً شبه وحيدة للتعامل معها، ومع الاحتجاجات اللاحقة. وحافظ على هذا الخيار حتى اللحظة الراهنة، انطلاقاً من عقيدةٍ، ترسخت عقوداً من الحكم الأمني الصارم، لا تقيم وزناً كبيراً لأية اعتبارات مجتمعية، أو حقوقية. لذلك، كانت القاعدة التي حكمت سلوك النظام، طوال مراحل الأزمة، أنه إذا لم تُجدِ القوة في إخماد الاحتجاجات، ومن ثم المعارضة المسلحة، فإن مزيداً من القوة قد يجدي.
في مصر، كانت هناك مقارباتٌ كثيرة للتعامل مع المعارضين، سواء في عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، أم في الأطوار التالية. وباستثناء الفترات الأخيرة بعد الانقلاب العسكري على حكم الإخوان المسلمين، ظل استخدام القوة في أدنى درجاته، بالنسبة لدولة من العالم الثالث. ولم يخض نظام مبارك المعركة صراع حياة أو وجود. لذلك، جاء تنازله عن الحكم سهلاً، وفي فترة قصيرة نسبياً. وطبعاً، اختلفت الصورة نسبياً، بعد الانقلاب الذي أزهق أرواح مصريين كثيرين، على نحوٍ استدعى المشهد السوري في الأشهر الأولى من الاحتجاجات، حيث يتم إطلاق النار على المتظاهرين الذين، وخلافاً لادعاءات كلا النظامين في دمشق والقاهرة، لم يثبت أنهم مسلحون.

وكما حال نظام الأسد في سورية، يعتمد نظام عبد الفتاح السيسي في مصر على دولٍ إقليمية، لتعويمه سياسياً وانتشاله اقتصادياً، في ظل انكفاءٍ دولي، اختار حالة الترقب شكلياً، وإنْ كان الاعتقاد الراجح أن لتلك الدول أدواراً خفية، تدفع تحت الطاولة نحو خياراتٍ محددةٍ تناسبها، مباشرةً في اتصالاتها مع الأطراف المعنية، ام عبر توكيلات إقليمية.
وحتى في أحلك أيام حكم العسكر في مصر، ظل المتظاهرون يستطيعون الخروج، والتظاهر تحت تغطية ما من وسائل الإعلام، أو من جانب الناشطين، وهذا، طبعاً، لم يكن متاحاً للسوريين في أية مرحلة، وإن كانت هذه الميزة لمصر بدأت التقلص في الآونة الأخيرة، لصالح الاقتراب من الحالة السورية.
واعتمد النظامان في دمشق والقاهرة على العناصر المسلحة، أو شبه المسلحة غير الرسمية فيما عرف بالشبيحة، ثم قوات الدفاع الوطني، في سورية، والبلطجية في مصر. وبينما لا يعرف تحديداً عدد الشبيحة وقوات الدفاع الوطني في سورية، وإن كان يقدر بعشرات الآلاف، تفيد تقديرات بأن هناك نحو 300 ألف بلطجي في أنحاء مصر، منهم 43 ألفا مسجلون "خطر" لدى وزارة الداخلية، في القاهرة وحدها.
وخلافاً للمراحل السابقة منذ قيام الثورة في مصر، كانت هناك فسحة للمعارضين، وكان تسامح نسبي معهم من وسائل الإعلام ومن القضاء والمجتمع، وهي صورة بدأت تتغير بسرعة، في الآونة الأخيرة، حيث برز ما يشبه الإرهاب الجسدي والفكري إزاء المعارضين يقارب الحالة السورية، وان لا يزال أقل درجة.
وفي كلا النظامين، وفي كل المراحل، كان المعارضون محل اتهام بأنهم مرتبطون بجهات خارجيةٍ، تمويلاً وتسليحاً، بهدف نزع "الصفة الوطنية" عنهم، وتصوير الخصم عميلاً لقوى خارجية، أو في أحسن الأحوال، أداة ساذجة بيدها. وتبرز هذه الاتهامات في سورية، بصورةٍ أكثر حدة، وتكاد تكون نقطة الارتكاز في دعاية النظام ضد معارضيه.
وعلى الرغم من دعواتٍ صدرت لأفراد الجيش والشرطة للانشقاق، وعدم إطاعة الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، لم تسجل حالات انشقاق في الجيش المصري، أو الشرطة.  خلافاً للوضع في سورية. وربما يعود هذا أساساً إلى أن الجيش المصري أكثر تماسكاً، حيث أعمال القتل التي قام بها، أو سمح بالقيام بها، بدأت منذ فترة قصيرة نسبياً، ولا يزال أغلب المصريين يثقون بجيشهم الوطني.
واستغرق تحول الاحتجاجات السلمية في سورية إلى العمل العسكري أكثر من ستة أشهر، أريقت في أثنائها دماء كثيرة لمتظاهرين سلميين، وزجّ بآلاف منهم في السجون، بينما تحافظ الاحتجاجات في مصر على طابعها السلمي إلى حد بعيد، وإن كانت تقع باستمرار حوادث أمنية هنا وهناك. لكن، من غير الواضح، حتى الآن، طبيعة ارتباطها بحركة الاحتجاجات الشعبية، في ظل اتهاماتٍ وشكوكٍ بأنها قد تكون من تدبير الأجهزة الأمنية نفسها، بهدف تعبئة المجتمع ضد خصوم السلطة، بعد اتهامهم بالمسؤولية المباشرة، أو غير المباشرة عنها، وهي ظاهرة وجدت أيضا في سورية، في مرحلة المظاهرات السلمية، ووجهت التهم حينها لأجهزة المخابرات بفبركتها للغاية نفسها.

 وفي سورية، لم يكن ثمة فرصة لمتابعة أي صوت إعلامي خارج السياق الرسمي، في كل مراحل الثورة، ولا تزال كل وسائل الإعلام العاملة في العلن تردد رواية النظام بشأن ما يجري، وهي صورة كانت مختلفة في مصر، إلى مرحلة ما قبل الانقلاب العسكري الذي لجأ، بدوره، إلى مقاربةٍ تكاد تكون مشابهةً لحال سورية، حيث بادر إلى إغلاق المحطات المناوئة، وضيَّق على الإعلام الخارجي، وأطلق الإعلام المحلي، ليشن حملةً  شعواءَ  تشيطن الخصوم، وتعزو لهم كل شرور العالم، واستكمل ذلك، أخيراً، بمحاولة تعويم هذه الشيطنة إقليميا ودولياً، ما تجلى بإقدام السعودية على تصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، وطلب الحكومة البريطانية دراسة وضع "الإخوان" في بلادها، بناءً، كما رشح، على ضغوطٍ مصرية وسعودية.
ـ مصر وإن خضعت في العقود الماضية لنظام شمولي، قوامه الفساد وهيمنة الجهاز الأمني، أنتج فقراً وسخطاً شعبياً، لكن الجيش ظل مؤسسة "وطنية"، غير مدبوغةٍ بسمةٍ طائفيةٍ، كما حال سورية. لكن، من جهة أخرى، سعى الجيش، خصوصاً، في السنوات الأخيرة، إلى الهيمنة على الاقتصاد المصري، وهو يسيطر حالياً على ما يصل، بحسب تقديرات، إلى نحو   40 % من إجمالي الناتج القومي المصري.
ويأتي غالبية المحافظين في مصر من ضباط الجيش المتقاعدين، كما يقوم بتشغيل مؤسسات عديدة كبيرة في القطاع العام في الدولة ضباط كبار في الجيش، أحيلوا إلى التقاعد. ويحصل هؤلاء، إضافة إلى رواتبهم من القوات المسلحة، على رواتب مجزية، وامتيازات أخرى كثيرة، مرتبطة بوظائفهم المدنية. ويمنح هذا الوضع الجيش قوة إضافية، تمكّنه من التحكم، إلى حد ما، بسيرورة عمل الدولة في مختلف القطاعات، وليس على الصعيد الأمني فقط، أي المساعدة في حل أزمات الدولة، أو افتعال أزمات للحكم القائم.
- في سورية، ثمة خارطة مذهبية وإثنية أكثر وضوحاً، تتلخص، أَساساً، بالأكثرية السنية الثائرة و" كتلة الأقليات" المترددة، أو المنحازة للنظام في الإجمال. وفي مصر، وخلافاً لانطباعٍ سائد بأنها أكثر اندماجاً، من ناحية التكوين العرقي والاثني للسكان، من بقية البلدان العربية، فإن الأحداث الأخيرة سلطت الضوء على تبايناتٍ عرقيةٍ، قد تكون في خلفية الانقسام الحاد الذي يعيشه المجتمع المصري هذه الأيام. فالشعب المصري يضم عرقياتٍ مختلفة، مثل الأقباط، وهم عرق، فضلا عن أنهم أتباع المسيحية، حيث يعتبرون الجيل الثاني من الفراعنة، سكان مصر الأصليين، والعرب والبدو الرحل الذين وفدوا إلى مصر في أثناء الفتح الإسلامي، واستمر توافدهم حتى عهود ليست بعيدة، واستقر معظمهم في الصعيد وشرق الدلتا، وعلى أطراف المدن، وفي سيناء والصحراء الغربية والشرقية، والأمازيغ (البربر).  ويعيشون حالياً في منطقة واحة سيوة ومدن أخرى، والزنوج وهم النوبيون وقبائل البجا وقبائل البشارية وقبائل غرب إفريقيا، والمنحدرين من أصول أوروبية إغريقية وتركية وألبانية وإيطالية وغير ذلك.
وفضلا عن التباينات العرقية، هناك التقسيم التقليدي على أساس ديني، أي ما بين مسلمين وأقباط. ولعل محاولة إيجاد علاقة سببية بين هذه التباينات العرقية والدينية، والموقف السياسي إزاء التطورات في الساحة المصرية، لن تكون بلا فائدة. ويلاحظ أن الحاضنة الشعبية للإخوان المسلمين، والرئيس محمد مرسي، تتركز في الصعيد وسيناء، حيث المنحدرين من أصول عربية، بينما تقف معظم الفئات الأخرى في الخندق المقابل.