التعلق بقشّة الأمل

التعلق بقشّة الأمل

19 ابريل 2020
+ الخط -
غرّد عالم الاجتماع الفرنسي، إدغار موران، بحذر شديد، مشيراً إلى تصريح للبروفسور لوك مونتانييه، مكتشف فيروس الإيدز، والحائز على جائزة نوبل للطب لعام 2008، عن توصّله، مع باحثين آخرين، إلى شبه الحسم بأن فيروس كوفيد - 19 هو تركيبة تمت في مخبر بحثي متطوّر، بين الفيروس الأصلي الحيواني فعلاً الآتي من طائر الخفاش، مضاف إليه جزء من فيروس VIH المسبب لمرض الإيدز. وقد تعرّض موران، إثر تغريدته، إلى هجوم معلقين كثيرين اتهموه بالخرف، وبأنه ينشر لعالم خرفٍ مثله، باعتبار أن موران يبلغ 99 عاماً ومونتانييه يفوق الثمانين حولاً. وبمعزل عن التأكيد على وعي الناقل والمنقول عنه وعقلانيتهما التي تثبت كتبهما وأبحاثهما على رجاحة منطقهما، إلا أن من الواضح أن المنتقدين لم يتوقفوا كثيراً عند اللغة الحذرة والشرطية التي اعتمدها موران، ولم يتبنّ من خلالها ما غرّد به، إلا أنه اعتبر، وبحذر شديد أيضاً، الخبر مهماً ويجدر به مشاركته. 
دفعت هذه التغريدة، الصاعقة، كاتب هذه المقالة إلى الخوض في البحث عن التصريح الأصلي، سعياً إلى التأكد، مع قناعة دائمة برفض نظرية المؤامرة، وكذلك آخذاً بعين الاعتبار أن الطبيب المخبري المذكور، وعلى الرغم من حصوله على جائزة نوبل سنة 2008، إلا أنه قد تعرّض للاتهام بتبني الآراء المحافظة، فيما يتعلق ببعض الأمور الطبية، خصوصاً ما يتعلق منها باللقاحات الإجبارية التي تفرضها وزارة الصحة على الأطفال، إذ عارض منذ سنوات بعضاً منها، واعتبر أن فرضها ليس لصالح الطب، بل لصالح بعض شركات الأدوية. وبعيداً عن الفهم أو ادعائه في الأمور الطبية، من الضروري الاستماع إلى وجهة نظره التي صرّح بها في حمأة التصريحات والاجتهادات والتأكيدات والتكذيبات التي تنهال من كل حدب وصوب.
اعتبر العالم الفرنسي أن هذا التركيب المزعوم قد تم في مخبر عالي الحماية ومتطور التقنية في 
مدينة ووهان الصينية، وذلك للحصول على لقاح لمرض الإيدز، وأن هذا الفيروس الجديد انتشر من هذا المخبر بشكل غير مقصود غالباً، بسبب ضعف الاحتياطات اللازمة. وبتواضع العالم، نبّه الطبيب مونتانييه إلى أنه ليس من اكتشف ذلك، مشيراً إلى مقال علمي لمجموعة بحثية هندية، تم حذفه من موقعها نتيجة تعرّضها لضغوط لم يحدّدها، مع تأكيد وجود النص في أيدي المختصين الفرنسيين والأميركيين. كما أشار إلى اعتقاده بأن الصين، التي كان في زيارة علمية إليها منذ أشهر، ويكنّ لها ولعلمائها كل الاحترام والتقدير كما كرّر، قد تكون قد مارست ضغوطاً عالمية لمنع انتشار المعلومة والتعتيم عليها، لأن الموضوع مؤلم للغاية. مضيفاً، في نهاية تصريحه، تفصيلاً مهماً للغاية، يتعلق باعتقاده أن الجهة المموّلة لهذا البحث الفيروسي، والذي نجمت عنه الكارثة، هي شركات أميركية.
لماذا يتلقف الناس المحجورون مثل هذا الخبر، ويتناقلونه مع التشديد على وجوب اتخاذ أعلى درجات الحذر في تبنّيه؟ الاعتقاد أن السبب يكمن في الضغط النفسي الرهيب الذي يعيشه عموم الناس تحت وطأة الحجر المفروض على البشرية، والذي لا يعرف أحد متى ينتهي. كما أن استمرار النظر إلى عمق نفق مظلم مليء بالانتظار وبالأخبار السيئة الحاملة أعداداً كبيرة من الضحايا، على أمل تبيّن بصيص من نور في نهايته، سيدفع الناس إلى البحث عن الحل، ولو كان وهماً. يقول تصريح مونتانييه باحتمال أن تتمكّن الطبيعة الإنسانية من التخلص من الجزء المضاف والآتي من الإيدز. وبالتالي، سيعود الفيروس المركّب إلى أصله الحيواني غير القابل 
للانتقال مبدئياً إلى الإنسان، ما يؤدي إلى انحسار انتشار الوباء تدريجياً. يبقى هذا اعتقاد الطبيب الحاصل على جائزة نوبل، وبعض ممن تبنّوا ما أتى به. أما الانسان العادي، فليس له أن يجزم بما تقدّم، وعليه أيضاً أن يكون شديد الحذر مما تقدّم، خصوصاً في هذا الحقل العلمي الدقيق.
في عودة إلى إدغار موران، تعامل بفطنته المعهودة وبهدوء أسطوري مع المتهكّمين على نشره الخبر، والذين اعتبروا في غالبيتهم بأنه فقد الوعي وأن تلافيفه الدماغية في تآكل. ومن أجمل اللحظات التويترية، إن جاز التعبير، فقد أجاب كل معلّق على حدة، منشّطاً عبر ذلك حواراً فلسفياً يحمل كثيراً من الحكمة، ما دفع غالبيتهم إلى العدول عن لهجة التهكّم والعودة إلى الجدل الإيجابي، ومحاولة تفنيد عقلانية لما ورد. وفي هذا التفاعل إشارة واضحة أيضاً إلى التوتر الذي يشوب النفس البشرية في هذه المرحلة العصيبة. توترٌ يدعو أحياناً إلى تبني لغة متطرّفة أو غير عقلانية، وفي أحيان أخرى، إلى تصديق ما تيسّر من ادّعاءات العلاج، وفي بعض الأحيان، إلى اللجوء إلى السخرية المساعدة على حماية الأعصاب من الانفلات.
ربما صحّت الاتهامات بأن ما ورد على لسان صاحب "نوبل" للطب هو محض هراء، كما أشار إلى ذلك تصريح لمعهد باستور الباريسي الجاد بالأمس، ولكنها قشّة من أمل نادر يبحث عنه الناس في كومةٍ ملؤها الانتظار والإحباط والألم.