التعصب أزمة فكرية

التعصب أزمة فكرية

25 يوليو 2015
+ الخط -
(دينك جيد يا سيدتي، ولست بحاجة إلى دين آخر غيره، بشرط التقى، وأن تعيشي حياة هادئة ومسالمة، ولا تؤذي أحداً). كان ذلك رد الفيلسوف الهولندي، اسبينوزا، على مؤجرته التي كان يسكن عندها على سؤالها: هل يمكن أن أجد نجاتي عن طريق ديني وممارستي شعائره وعباداته؟
لا يشير اسبينوزا في رده فقط إلى المحتوى الأخلاقي للدين، لكنه يستبطن، أيضاً، معياراً لصحة الدين وصلاحيته، وهو يضع، هنا، خطوة في طريق سار فيه من بعده كانط في إثبات الدين، استناداً على العقل العملي، أو الأخلاق، وليس عن طريق البرهان العقلي.
فالدين عند اسبينوزا يكون جيداً بمحتواه من القيم الأخلاقية، وليس بالحجج والمعجزات التي تدلل على صحته، فهو يضع الأخلاق معياراً، قبل أن يجعلها كانط من بعد دليل على ضرورة وجود الله واليوم الاخر.
ثارت الكنيسة من بعد على كانط، واعتبره علماء الدين ملحداً، لأنه جرد الدين من قوته، وساهم في إضعافه، بنفيه قدرة العقل على النظر في الميتافيزيقيا. وبغض النظر عن صحة طرح كانط أو عدمه، فإن الحساسية المفرطة من المتدينين ضد هذا الطرح، تشير إلى استبطان فكرة متجذرة عند بعضهم، وهي أن النظر العقلي في وسعهم الوصول إلى الحقيقة المطلقة، وبالتالي، القول إن الميتافيزيقيا لا تعتبر ميدانا للعقل المحض، كما عند كانط، يعني فقدان الدين فرصته، كي يثبت عقليا كحقيقة مطلقة، فكان لابد من محاربة مثل هذا الطرح، خصوصا بعد تنامي إنجازات العلم وتأثيره على الحياة.
لمشكلة التعصب أسبابها النفسية والإجتماعية والإقتصادية، فهي ظاهرة معقدة، كتعقيد النفس البشرية. ولكن، من المهم أيضا البدء في وضع أسس منطقية، تساعد على تفكيكها، وأولى هذه الخطوات فك الإرتباط بين النظر العقلي والحقيقة المطلقة التي هي ليست نتيجة حتمية للنظر العقلي، بل هي غير مدركة أصلا حتى في قضايا العلم، فالحقيقة العلمية نفسها لا تعتبر حقيقة مطلقة، دعك من قضايا الغيب والماورائيات.
تتطلب دراسة موضوع الحقيقة بحثا طويلا يبدأ من الإبستمولوجيا وقضية الأفكار الفطرية المركوزة ومصادر المعرفة، ثم الصراع الطويل بين الفلسفة العقلية والحسيين، وكل هذا لا سبيل للخوض فيه، هنا، لكني أشير هنا إلى محطتين مهمتين في الموضوع:
الأولى، ما قدمه كارل بوبر في نقده الاستقراء، فالحقيقة العلمية عند بوبر في تأسيسه فلسفة العلم هي، في الأساس، قابلة للتكذيب. وبالتالي، تظل حقيقة إلى أن تكذب، وهذا نفي ضمنى لإطلاقها، فأهم مميزات العلم أنه متغير دوماً، ولا مجال فيه للثبات والإطلاق.
المحطة الثانية ما أقدمت إليه فيزياء الكم من نقض لأهم قوانين العقل الأولى في المنطق الصوري، وهو قانون عدم التناقض، فأصبح متصورا وجود إلكترون واحد في مكانين مختلفين في الزمن نفسه. وعلى الرغم من أن بعضهم يحتج بأن قوانين العقل لا تعمل في المستوى الجزيئي. ولكن، هذا أيضا نفي لإطلاقها.
وبنفي الإطلاقية عن العلم وانهيار ما يستند إليه المنطق الصوري، يتطلب الإدعاء بإمكانية تأسيس إطلاق معرفي داخل الحقل الديني جهدا في مستويين، مستوى إثبات قدرة العقل على النظر في الماورائيات، ثم إثبات إمكانية الحصول على حقيقة مطلقة، ويقين كامل من النظر العقلي.
من حق المؤمن أن يعتقد بما يشاء، إذا رأى من الدلائل ما يقوي احتمال صحة اعتقاده، لكنه يصل إلى كامل يقينه، بإيمانه القلبي، لا بنظره العقلي الخالص.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا يحق لإنسان أن يحمل الآخرين على ما وصل إليه من يقين، فإذا كان فرض الأفكار أزمة أخلاقية، كما كتبت من قبل (التطرف أزمة أخلاقية)، فإن فرض الأفكار، على الرغم من معرفة نسبيتها يكون أزمة أخلاقية مركبة، لأنه لا يوجد أصلا مبرر لمثل هذا الفعل، وإن كان خاطئا.
الإيمان بدون وجود إثبات كامل له، كحقيقة مطلقة ليس نقصا فيه، لأن الوصول إلى حقيقة مطلقة في الأساس منعدم، ولكن طبيعة الحصول على الإيمان، خياراً شخصياً، ينبغي أن تدفع إلى أعلى درجات التسامح مع الآخر.
7C8EE555-4E6E-40E3-BAE1-A4099D6E29ED
7C8EE555-4E6E-40E3-BAE1-A4099D6E29ED
محمد زيدان عبده زيدان (السودان)
محمد زيدان عبده زيدان (السودان)