التعذيب في السجون اللبنانية...تلاعب بحقوق الضحايا في إثبات الجريمة

التعذيب في السجون اللبنانية... تلاعب بحقوق الضحايا في إثبات الجريمة

14 أكتوبر 2019
العديد من حالات التعذيب مستحيلة الإثبات قانونياً(العربي الجديد/حسين بيضون)
+ الخط -
يتذكر العشريني اللبناني عبد الرحمن أحمد، كيف كان يتعرَّض للضرب المُبرِح على يدّ العناصر الأمنية في سجن الريحانية (التابع للشرطة العسكرية في الجيش اللبناني)، إذ كانوا يركلونه بأقدامهم، خصوصًا وهو نائم، ما دفعه للتفكير في الانتحار بعدما سيطرت معاناته من التعذيب الجسدي على حالته النفسية.

عبد الرحمن الذي صدرت بحقّه مذكرة توقيف قبل ثلاث سنوات بتهمٍ مرتبطة بـ"الإرهاب"، أخبر عائلته ومقرِّر لجنة السجون في نقابة المحامين في طرابلس المحامي محمد صبلوح بما يتعرَّض له، فتقدَّم الأخير بشكوى أمام النيابة العامة التمييزية، وطلب تعيين طبيب شرعي وآخر نفسي مستقلّ للكشف على المدعي الموقوف، بيد أنّ المحكمة العسكرية التي أحيلت القضية إليها، عيّنت الطبيب بعد سبعة أيّامٍ، الأمر الذي أدى إلى زوال آثار الضرب والتعذيب وليغلِقَ الملف، "لا بل اتّهم أحمد باختلاق جرمٍ للشرطة العسكرية"، بحسب ما يروي صبلوح لـ"العربي الجديد".

ما جرى مع أحمد يعد جزءا من ظاهرة وثقتها لجنة السجون في نقابة المحامين في طرابلس، والتي قالت في تقرير لها غير منشور جرى العمل عليه في أغسطس/ آب الماضي، وحصلت "العربي الجديد" على نسخة منه: "المحامون يعانون من معوقات كثيرة في إثبات جريمة التعذيب، إذ حدد قانون أصول المحاكمات الجزائية في مواده 32 و42 مدة التوقيف لدى الأجهزة الأمنية (الضابطة العدلية) بيومين قابلين للتمديد بمدة مماثلة بقرار خطي من المدعي العام، لكن للأسف لا تطبق هذه المواد لدى جميع الأجهزة الأمنية ويقبع الموقوف في التحقيقات الأولية من شهر حتى خمسة أشهر لضمان اختفاء آثار التعذيب، ويقف المحامي أمام قاضي التحقيق بعد انقضاء كل هذه الفترة ويطلب تعيين طبيب شرعي مستقل لإثبات التعذيب، لكن للأسف معظم قضاة التحقيق يعينون طبيب السجن الذي ينكر وجود تعذيب (هذه مخالفة لاتفاقية مناهضة التعذيب التي تؤكد ضرورة تعيين طبيب شرعي مستقل)، أو يصار إلى التأخير في تعيين طبيب شرعي أطول فترة ممكنة، وبذلك تكون آثار التعذيب قد زالت واندثرت (علمًا أن قانون 65/2017 حدد مهلة تعيين الطبيب الشرعي خلال 24 ساعة)".



جريمة بلا محاسبة

يوثق المركز اللبناني لحقوق الإنسان (مستقل تم تأسيسه في عام 2006)، ظاهرة التعذيب في السجون ومراكز الاحتجاز، وبحسب تقرير حديث رصد الظاهرة خلال الفترة بين أيار/ مايو وتموز/ يوليو 2019، فقد رصد المركز ووثق حالات متنوعة من التعذيب في ستة سجون تحت رقابة وإدارة المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، وهي بعبدا، زحلة، النبطية، سجن طرابلس للنساء، وآخر للرجال، وسجن صور للرجال.

ويقول المركز في التقرير الذي زود "العربي الجديد" بنسخة منه، إنّه بين 92 شخصًا جرت مقابلتهم، فقد كان 67 منهم ضحايا تعذيب، 38 من الرجال و29 من النساء. وبالتالي، فقد بلغت نسبة السجينات من ضحايا التعذيب 43% و57% لناحية الرجال. وتنوعت الجنسيات بين لبنانيين، (رجال ونساء)، فلسطينيين من الجنسين، وسوريين أيضًا، ونساء من الجنسية البنغلادشية والفنزويلية. وترتكب أعمال التعذيب عادةً خلال فترة التوقيف وقبل بدء التحقيقات الأولية وجلسات المحاكمة. وتنوعت أساليب التعذيب التي وثقها المركز بين الكرسي الكهربائي، أو الحرمان من الطعام والمياه، والبلانكو، والتحرش والاعتداء الجنسي.


وبالرغم من أن بعض المساجين أفادوا خلال محاكمتهم أمام محكمة الجنايات أو خلال التحقيق الابتدائي أمام قاضي التحقيق بأنهم تعرضوا للتعذيب وأن الاعترافات المدونة في محاضر الضابطة العدلية خلال التحقيق الأولي انتزعت منهم تحت الضرب والتعذيب، وعليه لم تأخذ المحكمة بهذه الاعترافات، وحوكم المتهمون وصدر حكم براءة بحقهم، إلا أن منسقة البرامج في المركز اللبناني لحقوق الإنسان جوزيان نون، قالت لـ"العربي الجديد": "لم نشهد أيّا من العقوبات المسلكية والقضائية بحق عناصر الضابطة العدلية الذين أقدموا على التعذيب لنزع الاعتراف".

وهنا يضيف المحامي صبلوح من واقع خبرته، أنّ الأجهزة الأمنية اللبنانية تمارس التعذيب أثناء التحقيقات الأولية وخصوصًا في ملفات الإرهاب والمخدرات والتخابر مع العدو لانتزاع اعترافات الموقوفين بالقوة، رغم أن الأمر يخالف القوانين اللبنانية والاتفاقيات الدولية الملزمة للحكومة اللبنانية في غياب للمحاسبة القضائية على تلك الانتهاكات، الأمر الذي من شأنه أن يعطي حصانة للمحققين ويغري بالسماح لهم بانتهاج أساليب شرسة أثناء التحقيقات لإجبار الموقوف على التوقيع على اعترافات قد يكون بريئا منها. وعلى الرغم من ثبوت العديد من قضايا التعذيب، إلا أنّ القضاء لم يحاسب أحداً حتى تاريخه إلا بشكل وهمي أو إعلامي فقط، على حد قوله.


كيف يتم خرق قانون مناهضة التعذيب؟

تفيد تقارير متطابقة بأن قوات الأمن والجيش تواصل استخدام التعذيب ضد المشتبه بهم الموجودين رهن الاحتجاز، بمن فيهم الأطفال، الذين يودعون في أغلب الأحيان في الحبس الانفرادي، وهو أسلوب تلجأ إليه أساسا لانتزاع الاعترافات لاستخدامها في الدعاوى الجنائية أو كشكل من أشكال العقاب على الأفعال التي يُعتقد أن الضحية ارتكبها، وفق ما وثقته منظمة "هيومان رايتس ووتش" في تقرير صادر في مارس/ آذار الماضي.

ومن أبرز معوقات إثبات جريمة التعذيب، عدم السماح للمحامي بزيارة الموقوف أثناء التحقيقات الأولية إلّا عند عرضه على قاضي التحقيق، الأمر الذي يسهل لمرتكبي جريمة التعذيب استعمال القسوة على الموقوف لانتزاع الاعترافات منه بالقوة، والمشكلة أن بعض المحاكم في لبنان تأخذ بهذه الاعترافات غير القانونية والمخالفة للقوانين اللبنانية والاتفاقيات الدولية معتبرة إياها الدليل الوحيد على الإدانة ضاربة عرض الحائط بما يثيره الموقوف من تعرضه لأبشع أنواع التعذيب ودون حتى التحقيق بجريمة التعذيب، علماً أن الملاحظات الختامية التي أرسلتها الأمم المتحدة للبنان أكدت أنه عندما يثير الموقوف قضية التعذيب يقع الإثبات على عاتق المحكمة التي من واجبها فتح تحقيق بالقضية وفي حال عدم القيام بذلك، فإن التعذيب يعد ثابتاً وأكيداً، بحسب تقرير لجنة السجون في نقابة المحامين في طرابلس.

ويوضح المحامي صبلوح ما سبق قائلا إن "الموقوف الذي تعرَّض للتعذيب، عندما يأتي إلى قاضي التحقيق العسكري، ويشرح له بالتفصيل الوقائع وما حصل معه، فإن واجب القاضي في هذه الحالة إحالة الأمر الى النيابة العامة للادعاء على من حقَّق مع هذا الموقوف، لكن للأسف قد يمرّ الأمر عليه مرور الكرام. علمًا أنّ اتفاقية مناهضة التعذيب تفرض عبء الإثبات على المحكمة وليس على الضحية، فهي من واجبها فتح تحقيق بالقضية، وفي حال عدم القيام بذلك فإنّ التعذيب يعد ثابتًا وأكيدًا".

وعلى الرغم من المعوقات السابقة تحصي لجنة السجون في نقابة المحامين في طرابلس 31 حالة متنوعة وموثقة، من بينها 4 حالات لأشخاص قتلوا أثناء التعذيب الموثق من قبل منظمات حقوقية أو تقارير طبية أو مراسلات المفوض السامي لحقوق الإنسان في جنيف أو قرارات مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، توزعت بين قاصرين ورجال ونساء تعرضوا للتعذيب في الجيش ومخابرات الجيش والأمن العام وفرع المعلومات والشرطة العسكرية في الريحانية وأمن الدولة ومخفر البداوي وقوى الأمن الداخلي - إدارة سجن رومية، "ناهيك عن وجود مئات حالات التعذيب التي لم نستطع إثباتها للأسباب المذكورة سواء من ناحية التقصير القضائي أو الغطاء الذي يتمتع به المحقق الذي يمارس جريمة التعذيب، وخصوصاً أنه أمام كل ما ذكر لم نر وجودا لأي محاسبة ومن هم الذين تم التحقيق معهم بجريمة التعذيب"، وفق ما جاء في تقرير لجنة السجون التي أضافت: "كلنا يتذكر ما تعرض له الموقوفون في سجن رومية من ضرب وتعذيب في ظل إنكار قوى الأمن الداخلي ذلك وبتأكيد من وزير الداخلية يومذاك الوزير نهاد المشنوق، إلى أن ظهرت صور التعذيب وفيديو يؤكد تعرضهم لأبشع أنواع التعذيب من قبل قيادة السجن، إلا أنه تم إجراء محاكمة صورية لثلاثة عناصر أمنية فقط وذلك بعد الضغط من المجتمع الدولي".

ومن بين الحالات التي وثقها تقرير لجنة السجون، حالة تعذيب قاصر (سوري الجنسية)، عام 2016، أخفته الشرطة العسكرية 23 يومًا لإخفاء اثار التعذيب، وبعد إثارة قضيته في الأمم المتحدة تم تركه، ثم تعرّض للتوقيف بسبب ذكره ما تعرَّض له من تعذيب عبر الإعلام، وبقيَ 25 يومًا في السجن الانفرادي من دون سبب، وذلك بحسب تقرير منظمة الكرامة (مؤسسة سويسرية مستقلة للدفاع عن حقوق الإنسان مقرَّها جنيف، تأسست سنة 2004).



نفي رسمي

بلغ عدد السجناء المتوفين في السجون خلال العام الجاري 21 سجينًا، وتتنوّع أسباب الوفاة، فهناك الوفاة الطبيعية، وشنق النفس، وصاعقة كهربائيّة، بحسب إفادة رئيس فرع السجون في قيادة الدرك الإقليمي العقيد غسان عثمان، الذي يتابع، في إفادة لـ"العربي الجديد": "لا تعذيب في السجون اللبنانية، والقضية الأبرز التي ضجّت بها وسائل الإعلام والجمعيات المدنية كانت تعذيب الموقوفين الإسلاميين في نيسان/ إبريل 2015، ووقتها أصدر وزير الداخلية نهاد المشنوق بيانًا أشار فيها إلى أن الأحداث حصلت في مرحلة مواجهة التمرّد الأخير ودهم المبنى (د) في سجن رومية، وأعطى توجيهاته إلى المراجع الأمنية المختصة بضرورة إجراء تحقيق شفاف وفوري، وأحال المرتكبين إلى القضاء المختص لإنزال أشد العقوبات بهم".

وأجرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر 108 زيارات إلى أماكن احتجاز تقع تحت سلطة المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي خلال عام 2018، وعقدت سلسلة حوارات مع الجهات المعنية لكن تبقى سريّة، للتداول بشأن المعايير العالمية للاحتجاز وتقديم التوصيات من أجل تحسين أوضاع المحتجزين وفق إفادة المتحدِّثة باسم اللجنة رونا الحلبي.

وتشير المحامية جوديت التيني (ناشطة في حقوق الإنسان)، إلى أنّ "المادة 15 من المرسوم رقم 14310 الصادر في 11 شباط/فبراير 1949 حول "تنظيم السجون وأمكنة التوقيف ومعهد إصلاح الأحداث وتربيتهم"، تنصّ على أنّه لمدعي عام الاستئناف أو مندوبه أو القاضي الذي ينتدبه وزير العدل لهذا الغرض وللمدعين العامين لدى المحاكم البدائية ومحاكم الصلح ما خلا الموجودين منهم في مراكز المحاكم البدائية، حق مراقبة جميع سجون الدولة في ما يتعلق بقانونية التوقيف وإخلاء السبيل ويمكنهم عند زيارتهم السجون، أن يطلبوا الاطلاع على سجلات المسجونين والمحكومين والموضوعين تحت نظام العزلة، وإذا شاءوا طلب بعض الإيضاحات الأخرى الخارجة عن الأمور المبينة أعلاه فعليهم أن ينظموا بذلك طلبًا خطيًا يقدّمونه إلى الرئيس المباشر لقائد السجن أو لقائد الفصيلة".

هنا، يشير المحامي شكري حداد وهو عضو في جمعية "الجهد المشترك" (تأسست عام 2010 بهدف تعزيز المحاسبة)، إلى أنّ "المرسوم رقم 6236 الصادر في 17 يناير/كانون الثاني عام 1995، نصّت المادة 61 منه في ما يخصّ المعاملات الرسميّة بأنّ كل طلب يتقدّم به سجين لإجراء معاملة رسمية لدى الدوائر العدلية والإدارية على مختلف أنواعها أو يتعلق بتوكيل محام للدفاع عنه في القضية الملاحق من أجلها يجب أن يصادق على توقيعه آمر السجن ويحيله من دون إبطاء إلى المراجع المختصة، ومنها حالات التعذيب".

دلالات