التطبيع في تونس خيانة أم قرار سيادي؟

التطبيع في تونس خيانة أم قرار سيادي؟

10 سبتمبر 2020

تونسيون يتظاهرون في العاصمة ضد التطبيع مع إسرائيل (5/2/2020/Getty)

+ الخط -

تصدّرت قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني، في الحملة الانتخابية الرئاسية في تونس، النقاش، وأصبحت من مشاغل الرأي العام، وكانت عاملا أساسيا في حصول المنعرج الانتخابي في الدور الثاني الذي جمع بين نبيل القروي وقيس سعيد، خصوصا عندما أعلن الأخير، في المناظرة النهائية التي جمعته مع منافسه، أن التطبيع خيانة، وأن الحقوق الفلسطينية لا تسقط بالتقادم. وكانت تصريحات حولت قيس سعيد إلى بطل شعبي، بل وذاع صيته لدى الجمهور العربي بصورة عامة.

بعد وصوله إلى الرئاسة، تغيرت التصريحات وتحولت المواقف، ربما بما يبرّره بعضهم بالواقعية، أو ما يعتبره آخرون مشهدا للسياسة الرسمية العربية، فالرئيس التونسي، بعد الإعلان الإماراتي عن التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني، ظهر في مشهد فرجوي، وهو يلقي كلماته على السفير الفلسطيني، ويقول إن التطبيع قرار سيادي، وإنه لا يتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. ولم يكن مطلوبا منه أن يخرج لإدانة موقف التطبيع الإماراتي في بيان رسمي، كما كان يأمل أنصاره، والشعب التونسي عموما، وإنما كان في وسعه أن يصمت، ولا يبرّر التطبيع مع إسرائيل باعتباره قرارا سياديا، وكأن التعامل مع الاحتلال لا يستحق الإدانة، وإنما هو مجرّد خيار سياسي.

بقدر ما تحوّلت القضية الفلسطينية مشجبا لدى الأنظمة العربية لتبرير فشلها وعجزها استمر الشارع العربي وفيا للقضية المركزية

هذا التحول في المواقف الذي رأيناه في بضعة أشهر لدى الرئيس التونسي خلاصة مكثفة للممارسة الرسمية العربية في تعاملها مع القضية الفلسطينية منذ بداية الاحتلال سنة 1948. فكم من الانقلابات والثورات والصراعات الداخلية، أو حتى النزاعات بين الأقطار العربية، كانت تحمل شعار الدفاع عن القضية المركزية للأمة. كان النظام الرسمي في كل الدول العربية يستخدم القضية الفلسطينية لتسويق نفسه بين الجماهير المتعاطفة مع فلسطين. وإذا كان الشعور الشعبي إزاء الاحتلال صادقا نزيها، ويخلو من الكذب والمماحكة، فإن الأنظمة ظلت توظف هذه المشاعر الشعبية الصادقة لنيل التعاطف الشعبي، وفي أحيان كثيرة لتبرير ديكتاتوريتها وتوريثها الحكم، واستمرار سياساتها الفاشلة في قضايا التنمية والحريات العامة والحقوق المدنية.

اتساع مساحة الحريات وعودة السلطة إلى الشعب تعني عودة التطلعات الشعبية نحو تحرير فلسطين

بقدر ما تحوّلت القضية الفلسطينية مشجبا لدى الأنظمة الرسمية العربية لتبرير فشلها وعجزها استمر الشارع العربي وفيا للقضية المركزية، مؤمنا بأولويتها وقداستها. ومن هنا، كانت طرق الدعاية الرسمية تتغير بحسب مصالح الأنظمة، وهي في كل الحالات تظل حريصةً على خداع الناس، فمن مرحلة التعبئة لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر واستغلال مشاعر الجماهير الملتهبة من أجل مزيد إحكام السيطرة عليها، عبر أدوات الدعاية وتصوير الحاكم العربي الفاشل في صورة البطل الذي سيحرّر القدس، ثم انتقلت الدعاية إلى الحديث عن ضرورات الحكم، وأن اتخاذ القرار لإيجاد قنواتٍ لعلاقات رسمية مع الاحتلال أمر فرضته الضرورة السياسية، وهو مدخل لخدمة القضية الفلسطينية ودعم صمود الشعب في الداخل. وكان الشعار المحبذ لدى بعضهم حينها إنه إذا كان للأنظمة ضروراتها فللشعوب خياراتها، في تبريرٍ غريبٍ يكرّس واقع الانفصال بين الحكام والشعوب، وإن الأنظمة ليست مضطرّة لمجاراة شعوبها في ما تتطلع إليه. 

وإثر اتفاقية أوسلو، طوّرت الأنظمة أدوات دعاياتها، ليتحوّل شعار المرحلة إلى القول "نحن نقبل بما يقبل به الفلسطينيون". وكانت كلمة حق يُراد بها باطل، فالفلسطينيون، وإن كانوا هم المعنيون أساسا بالصراع مع الكيان الصهيوني، إلا أن خيارات المنظمات أو الأحزاب الفلسطينية لا تختصر توجهات الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، وأن الإمضاء على اتفاقيات مع العدو لا يُلزم الفلسطينيين جميعا، ولا يصادر حقهم في النضال والمقاومة، وقد أثبتت وقائع ما بعد "أوسلو" أن حركات المقاومة الفلسطينية ظلت حاضرةً وبقوة في المشهد، باعتبارها المكافئ الطبيعي لوجود الاحتلال.

الإمارات التي تدخلت لإفساد الثورات العربية، في مصر وليبيا وتونس واليمن، أصبحت عرّاب الموجة الجديدة من التطبيع مع الكيان الصهيوني

بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، عاد شعار تحرير فلسطين بقوة إلى الساحة، وكان المشهد مربكا لأنظمة الاستبداد العربي، وللاحتلال الصهيوني ومؤيديه، فقد كانت واضحة لدى الشارع العربي حالة الارتباط العضوي بين أنظمة الاستبداد والاحتلال، وأن اتساع مساحة الحريات وعودة السلطة إلى الشعب تعني عودة التطلعات الشعبية نحو تحرير فلسطين. ومن هنا، لم يكن غريبا أن تتصدّر أنظمة الاستبداد المؤيدة للثورات المضادّة مشهد التطبيع مع الكيان الصهيوني، فالإمارات التي تدخلت لإفساد الثورات العربية، في مصر وليبيا وتونس واليمن، أصبحت عرّاب الموجة الجديدة من التطبيع مع الكيان الصهيوني. وهذه المرّة بوجه مكشوف، ومن دون مبرّرات. والأخطر من القرار الرسمي للإمارات، في إعلان تحالفها مع الصهاينة، هو سعيها المحموم إلى تحويل التطبيع من قرارٍ رسمي فيه خيانة للشعوب إلى محاولة ترويج فكرة التطبيع الشعبي، عبر أدوات الدعاية، على الرغم من اليقين أن الجمهور العام في المنطقة العربية لا يزال يعتبر التطبيع خيانة، ولن يقتنع يوما بمبرّرات الحكام، ولا بضرورات السياسة، ولا مقولات المصالح الحيوية، فهو يدرك أنها مجرّد أكاذيب تردّدها أنظمة فاشلة، تجثم على صدور شعوبها منذ عقود.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.