التسوية أو الحرب الأهلية الشاملة (ليبيا)

التسوية أو الحرب الأهلية الشاملة (ليبيا)

14 مارس 2015
+ الخط -
بلدان عربيان يحدق فيهما خطر الحرب الأهلية. وقد تجاوزا مقدماتها ببضع خطوات، وبلغا أعتاب الحرب الأهلية الشاملة. على هذه العتبة، يُتخذ القرار، فإما الانعطاف المحكوم بالخوف والعقل سوية، وتغيير الوجهة والمسار نحو التسوية قبل نشوب الحرب؛ أو تخطيها والانزلاق في دوامة الحرب الأهلية التي لا بد أن تنتهي بتسوية.
الحروب الأهلية أقسى الحروب، وأكثرها تشويشاً لمنظومة القيم، وأبلغها أثراً على حياة الناس، وحفراً في ذاكرتهم وثقافتهم. فالقتال بين أبناء الوطن الواحد يتطلّب أفدح تجاوزات المحاذير الأخلاقية، من أجل ارتكاب فعل العنف الجسدي ضد القريب، كما تتطلّب تجاوز محرمات الوطنية بالاستعانة بدول أجنبية ضد أبناء الوطن الذين أصبحوا أعداء.
 يمكننا دائماً تحليل أسباب الحرب الأهلية، والعودة إلى جذورها التاريخية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولكن، في اللحظة الحاسمة، وعند حافة الانزلاق، ثمة سبب واحد مهم يستحق الذكر للحرب الأهلية؛ إنه عجز قيادات القوى الاجتماعية – السياسية عن صنع تسويات. في القدرة على صنع التسوية في هذه اللحظة التاريخية تكمن وطنيتهم، وفي غيابها خيانتهم الوطن.
في ليبيا، يسهل فهم ضرورة التسوية، إلا إذا أحرقت الحماقة كل بقعة خضراء في القلوب والعقول، لأن حسم المعركة عسكرياً خيار غير قائم إطلاقاً. فليس في وسع أي من الطرفين في ليبيا تحقيق انتصار بقوة السلاح. وقد بدأت دول العالم تعترف بهذه الحقيقة، وكذلك العاقلون من بين صناع القرار في دول الجوار. هؤلاء يمكنهم مد المقاتلين بالسلاح، لكنهم يخشون التورط في هذه الحرب مباشرة. فإما أن يستمر تعطيل الدولة في ليبيا، ما يعني حرباً أهلية مستمرة بوتيرة منخفضة لن تلبث أن تتحول إلى حرب شاملة في لحظة ما يصعب تحديدها، أو يتم التوصل إلى تسوية.
ليست اللحظة هذه مناسبة لحلول جذرية للمشكلات، أو فرض أيديولوجية بعينها، ولا حتى لحظة بناء أمة من الأفراد المندمجين، بل هي لحظة اتخاذ قرار صعب بتقديم تنازلات تمكّن الناس من التعايش منعاً للتدمير الذاتي؛ وتمهيداً، ربما، لتحقيق بعض الأهداف المذكورة أعلاه. وتكون
 التسوية أفضل، كلما أرسيت على أسس أكثر متانة من العجز عن الانتصار في حرب أهلية، وفي حالة القوى المتصارعة في ليبيا، أساسها المتين وحدة ليبيا، واعتبار أهداف ثورة 17 فبراير مصدراً للشرعية.
ونتيجة فشل المرحلة الانتقالية، لا يمكن تجاهل برلمان طبرق المنتخب، فهو منتخب فعلًا، بغض النظر عن اعتراف دول العالم به. إنه منتخب مثل البرلمان المصري المنتخب الذي استُخدمت المحكمة في الانقلاب عليه. ومن ناحية أخرى، لا يمكن تجاهل القوى الثورية المسلحة، والمؤتمر الوطني العام، وما يمثّلان من قطاعات اجتماعية ثورية تخشى، وبحق، احتمالات عودة النظام القديم، بموجب النموذج المصري. الصراع بين هذه القوى لا يُحسم انتخابياً في هذه المرحلة. ولا توجد دولة عميقة، تستغله لتحسم المعركة لصالح الثورة المضادة.
ومن ناحية أخرى، ليست "فجر ليبيا" حركة إرهابية، ولا حتى حركة إسلامية معتدلة، بل هي قوة شعبية حقيقية تشبه الشعب الليبي. ولا يمكنها أن تواجه قوى إرهابية متطرفة، فعلاً، طالما كانت منخرطة في جبهة حرب مع من يريدون القضاء عليها. وبرلمان طبرق، أيضاً، لا يمكنه مواجهة المتطرفين في معسكره، طالما انخرط في صراع على وجوده.
يعني استمرار الصراع، إذاً، استمرار ديناميكية دفع للتطرف في المعسكرين، ولا يمكن السيطرة على هذه الديناميكية في زمن الحرب. فقبل فترة قصيرة، لم يكن خليفة حفتر مقبولاً على برلمان طبرق كله من جهة، وكان "أنصار الشريعة" حركة هامشية في درنة وبعض أحياء بنغازي من جهة أخرى، لكن هذه القوى تتمدد داخل المعسكرين في ظل المواجهة.
أي حل سياسي في ليبيا يجب أن يستند إلى اعتراف بالبرلمان المنتخب، لكنه اعتراف مشروط يتلوه مباشرة قبول هذا البرلمان بقرار سيادي تسويةً يتشكل فيها نوع من هيئة وطنية شاملة، أو مؤتمر وطني لليبيين، وحكومة وحدة وطنية. ومن مسؤولية حكومة الوحدة الوطنية هذه بناء الجيش وقوى الأمن، على أساس اتفاق بين القوى المتخاصمة حالياً يدمج قواها المسلحة في هذه المؤسسات الوطنية الرسمية، وإدارة عجلة الاقتصاد، والتأسيس لانتخابات مقبلة بعد عدة سنوات. ولا يمكن تحقيق هذا بوجود مليشيات مسلحة، قادرة على تهديد النظام في أي وقت. ومن هنا، أهمية الاتفاق على دمجها في جيش وأمن وطني، مهمة رئيسية للوحدة الوطنية، وعلى دول الإقليم والجوار العمل على تسهيل ذلك، بقرار ملزم من مجلس الأمن.
فالمهم، حالياً، تأسيس نظام يمنع عودة الاستبداد، ويضمن حقوق المواطن والحريات والتعددية السياسية، ويحارب القوى المتطرفة التي ترفض الاعتراف بها. ويخطط لانتخابات قادمة، ولو بعد عامين أو أكثر، شرط أن تقام على أساس الوحدة الوطنية الراسخة، إذ لا يجوز أن تقود الانتخابات إلى الانقسام.
البديل للتسوية هو الحرب الأهلية التي لن تتدخل دولة أجنبية لحسمها. إنه خيار الليبيين، أسياد مصيرهم، ولا يجوز أن يلوموا أحداً على خيارهم الحر في هذه اللحظة التاريخية.
غداً: التسوية أو الحرب الأهلية الشاملة (اليمن)