الترويع والقتل من أبو غريب إلى جرف الصخر

الترويع والقتل من أبو غريب إلى جرف الصخر

26 اغسطس 2019
+ الخط -
لا تزال صور سجن أبو غريب المؤلمة والبشعة، جريمة الاحتلال الأميركي التي هزّت العالم في عام 2004، في الأذهان. يعيد الوكلاء إنتاجها في العراق كل يوم، فقد استيقظ العراقيون، في عيد الأضحى، على أخبار وصور وأفلام سربت لجثث مغدورين ومخطوفين ومغيّبين وأشلاء أطفال مقطّعة، في سجون مليشيات حزب الله ومنظمة بدر وعصائب أهل الحق والخراساني وغيرها من المليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني، لأهالي جرف الصخر الذين تم إخراجهم من قراهم في 2014 زورا، بحجة وجود مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). يبدو أن سجن أبو غريب هو البداية، و"المثل الأعلى" لسجون العراق الديمقراطي، فما إن ذاع إغلاقه كذباً، قامت عشرات السجون على شاكلته. ومن بين سجون المليشيات سجن أبو غرق الذي يحتجز سجناء مناطق الجنابين والنخيب والمحاويل والبو مصطفى، يليه سجن المحطة الحرارية، وغالبية المحتجزين فيه من الموصل، ممن اعتقلوا في الرزازة والرطبة، ثم سجن جرف الصخر، ويضم أعدادا كبيرة من مختلف أطراف المدينة حتى الفلوجة. والرابع هو سجن عرب جاسم، وغالبية المحتجزين فيه من مختطفي الصقلاوية، ويدير هذه السجون حزب الله وسرايا الخراساني وجند العقيدة والعصائب.
فضيحة الجثث هذه أسوأ من فضيحة سجن أبو غريب، فالجلادون عراقيون قتلوا وعذبوا 
وقطعوا إخوتهم في الوطن بأيديهم، ومن الضحايا أطفال، بيعت أعضاؤهم التي سلخت من أجساد عشرات المدنيين الأبرياء، للمتاجرة فيها، وذلك في مدينة جرف الصخر، وهي ليست منطقة حرب، ولم يرفع سكانها الآمنون السلاح بوجه القوات الحكومية، ولا المليشيات التي تتفاخر وتطلق الهلوسات الطائفية بالنصر على سكان عزّل، وهي مليشيات مدجّجة بالسلاح، دخلت إلى المدينة، بغرض الترويع والقتل وتهجير السكان، ما يكذّب رواية محاربة "داعش" كما تدعي، بل لأغراض وخطط إيرانية تتعلق بالطريق الذي تعمل عليه إيران منذ سنوات، للوصول إلى سورية والبحر المتوسط.
في سجن جرف الصخر، قتل المدنيون الأبرياء الذين تم احتجازهم، وأخرجت جثثهم على وجبات، وبأعداد تصل إلى المئات. ولم ير العراقيون أي تصريح أو إجراء، لا من الرئيس ولا من رئيس الوزراء، يدين هذه الجرائم، أو يكون له موقف منها، بل قلل رئيس مجلس النواب من فداحتها، وقال إنها ثلاثون جثة فقط، تعود لحوادث مختلفة، ليثير بين العراقيين غضبا واسعا، فيما خرج على الإعلام مسؤولون حكوميون، ليتحدثوا عن قتلى في نزاعات عشائرية، وعن جثث تعود إلى عدة سنوات سابقة، متروكة في الثلاجات، وقتلى لأسباب جنائية. وكلها ادعاءات مفضوحة وكاذبة لتناقضها الصارخ، فلا يمكن إبقاء الجثث سنوات في الحفظ، كما أفاد أطباء الطب العدلي. تركت الحكومة الجثث، ليتولاها أحد قياديي "الحشد الشعبي"، المدعو رعد الشوك، والذي يظهر فيديو له في مغسلة، يبيع للمشاهد ما يسميه "عملا خيريا" لدفن عشرات الجثث من "دون هوية" في أرض تبرّع بها أحد المحسنين. وهذا المليشياوي هو من قال إنه وجد أطفالا وجثثا مقطعة الأوصال في كارتونات للموز، وقد انتزعت منها بعض الأعضاء.
لماذا لا تتحمل الحكومة مسؤوليتها في كشف هويات الجثث، بدل تسليمها إلى ما قيل إنها منظمة خيرية كذبا، وهي قادرة على معرفة الهوية بشكل قاطع، بما لديها من أجهزة
 ومؤسسات؟ لماذا يتم رفض فحص الحامض النووي لمعرفة الشخص؟ ولماذا لم يستدع الناس لمعرفة جثث أبنائهم وعوائلهم؟ كيف تسلم حكومة شخصا من المليشيات المسؤولة عن اعتقال هؤلاء الناس مئات الجثث بهذه الطريقة الفضيحة التي ترقى إلى الجريمة، ولا تسلمها للطب العدلي، ليقوم بمهمة الكشف عن هويات الجثث؟ معاملة الحكومة الخاصة للمليشيات وحدها تفسر هذا التواطؤ لإخفاء معالم الجريمة، وليس هناك أي سبب آخر يجعل الدولة تستقيل من وظيفتها في التحقق من هويات جثث كثيرة مغدورة ومقطعة، تعرضها هذه المليشيات بنفسها على الملأ. حتى في قوانين الحرب، وفي الحروب، وعلى الرغم من كل ما يحصل فيها من جرائم، تتم معالجة الجثث بطرق إنسانية لإعادتها إلى أهلها.
من ديالى وكل حزام بغداد بالأمس إلى جرف الصخر اليوم، تقترف المليشيات، حكومة بعد حكومة، جرائم حرب من تطهير طائفي وإبادة للسكان المحليين، واحتجاز مدنيين وتهجير لغرض فرض الأمر الواقع، والاستيلاء على أراضٍ خارج القانون والتغيير الديموغرافي وجرائم التمثيل بالجثث والمتاجرة بالأعضاء البشرية. ولا غرابة أو مبالغة أن منظمة هيومن رايتس ووتش ذكرت، في تقريرها السنوي لعام 2018، أن عدد المفقودين والمغيبين في العراق بين عامي 2018-2014 يتراوح بين 250 ألفا إلى مليون شخص.
لقد حوّلت المليشيات التابعة للحرس الثوري مدن العراق إلى مسالخ في الهواء الطلق، ترسم بدماء العراقيين حدود نفوذ إيران ومناطق احتلالها وتصدير أيديولوجيتها تحت أنظار (ورعاية) حكومة المنطقة الخضراء وسلطة الاحتلال الأميركي التي ينسق عسكريوها في بعض المدن، كالموصل، مع هذه المليشيات، أمام الناس، ويشهد على ذلك حالات الابتزاز والمساومات التي يتعرّض لها الناس لإطلاق المعتقلين الأبرياء. ومنع عودة المهجرين من المدينة إلى ديارهم، وتصويت مجلس محافظة بابل قبل عام (أغسطس/ آب 2018) على مشروعٍ يقضي برفع دعوى قضائية على أيٍّ من السياسيين الذين يطالبون بعودة أهالي منطقة جرف الصخر إلى ديارهم، ومنع دخول أي مسؤول عراقي، حتى رئيس الوزراء نفسه، دليل واضح على أن كل ما جرى للمدينة هو من أجل احتلالها وتحويلها إلى قاعدة عسكرية إيرانية، ومعسكرات تدريب مهمة، في الطريق الرابط بين إيران والعراق والشام وفي حزام بغداد...
مجزرة جرف الصخر التي سربت فديوهاتها وصور قتلاها عمدا في يوم عيد الأضحى رسالة
إيرانية واضحة لمن يريد أن يسمع، دعاية مروّعة لوجود إيران في العراق، ليس فقط وكيلا للمحتل الأميركي، ومنسقا معه لتدمير هذا البلد، بل قوة لها نفوذها وخططها. ومنذ سنوات، يستمر بطش المليشيات التابعة للحرس الثوري بأبناء الشعب العراقي، ويهدم نسيج المجتمع بالطائفية، وغيرها من المنتجات الإيرانية القاتلة. رسالة جرف الصخر المليشياوية رسالة إرهابية إضافية موجهة إلى الشعب العراقي الأسير، وهي تعرّي أكثر وأكثر العملية السياسية وحكومة عادل عبد المهدي، وبرلمانه المشغول بعقود الفساد، بدل الاستجابة لحاجات المواطنين العراقيين في الخدمات والأمن، وكف الاعتقال والاختطاف الطائفي الممنهج، ورهن البلد للقوى الخارجية.
فك أسر الشعب العراقي من براثن المليشيات وجرائمها المستمرة لن يتم إلا بالتخلص من العملية السياسية التي تشرّع قتل العراقيين وتهجيرهم، وذلك بتوحد كل القوى الرافضة لتدمير البلد، وتنسيق جهودها، وهي اليوم تمتد من شمال العراق إلى جنوبه، وإقامة حكومة وطنية تنقذ باقي أبناء شعبنا وتستعيد سيادته... لقد مزق رجال العراق الأحرار أسطورة الجيش الأول في العالم في الفلوجة وغيرها، ففي سبتمبر/ أيلول 2009، حدثت معركة شرسة في مدينة ديالى، قال أحد جنرالات الجيش الأميركي عنها: "خرج علينا المقاومون كالأشباح، لا ندري كيف ومن أين. خضنا خمسة أيام معركة تشبه معركة الإنزال الأميركي في النورماندي خلال الحرب العالمية الثانية، اضطررنا لاستدعاء ثلاثة آلاف عسكري، واستعمال عدد مهم من الطائرات". هؤلاء هم رجال العراق وهذه مقاومتهم.
065C781D-CEC8-48F5-8BB1-44AD7C46983D
065C781D-CEC8-48F5-8BB1-44AD7C46983D
ولاء سعيد السامرائي

كاتبة وصحفية عراقية مقيمة في باريس

ولاء سعيد السامرائي