التحرش الجنسي... خطاب المنتفعين

التحرش الجنسي... خطاب المنتفعين

20 ابريل 2017
تحول التحرش إلى فعل يومي متوقع! (Getty)
+ الخط -
في ظل موجات التحرش الجنسي التي تتصاعد في مصر، وتتوطن مثل وباء ينتشر، بصورة مستمرة، يهاجم ضحاياه دون تمييز، فقد عانت منه أكثر من 99% من نساء مصر، بحسب بحث لهيئة الأمم المتحدة للمرأة أجرته عام 2013، فضلا عن خروج الظاهرة من فضاءاته المحدودة إلى دوائر أكثر عمومية وفي سياقات غير مبررة.

فلم تعد الظاهرة قاصرة على الأماكن المكتظة بالبشر، مثل المواصلات العامة، وفي المواسم والأعياد، لكنها تحولت إلى فعل يومي متوقع، يمارسه المواطنون من كافة الأعمار في الشارع والمدرسة وأماكن العمل، حتى بات مشهدا عاديا، نادرا ما يسفر عن ردود فعل من المارة تجاه المتحرش وتصديهم لفعله.

اتفقت أكثر من فتاة على حيلة لا تخطئ عينك عن ملاحظتها بسهولة، وهي تعمّد وضع سماعة الأذن للتشويش على ألفاظ التحرش وتفادي سماع التعليقات المسيئة والمنحطة، منذ لحظة خروجهن للشارع، لكنها لا تمنع نظراتهم الفاحصة، التي تنتهك خصوصية أجسادهن وتنزع شعورهن بالأمان.


وتفصح آلاء، صحافية، عن أحد المواقف التي تعرضت لها من أحد المجندين المكلفين بحراسة إحدى السفارات الأجنبية القريبة من مقر عملها، عندما قام بالتحرش اللفظي بها بصوت واضح، بالرغم من احتمائها بسماعة الأذن، ونظرة التهمت تفاصيل جسدها.

فاقتربت منه وهاجمته، فانهال عليها بألفاظ السباب، فصفعته على وجهه، فلم يتردد هو الآخر برد الصفعة بمثلها مع مضاعفة القوة. وللحظة رفعت الصحافية العشرينية صوتها تطلب النجدة من المسؤولين عن قوة التأمين، وبمجرد تحركهم من مكاتبهم القريبة، بدا الضابط غير متفهم لانفعالها بسبب "تحرش لفظي" من مجند، ويحاول إنهاء الموضوع بصلح أو وضعها أمام خيار آخر بتحرير محضر لها، في حال اتباع الإجراءات الرسمية، لأنها اعتدت على موظف أثناء تأدية عمله! وبالتالي، ستضطر إلى المبيت في الحجز داخل قسم الشرطة.

تتردد قصص كثيرة عن التحرش في الشوارع في غالبيتها يحتاج إلى فهم كثير من المتغيرات في البنية النفسية للمواطنين والمجتمع، والتحولات المؤثرة عليهما، سياسيا واجتماعيا وطبقيا وجندريا، والتي من بينها قيام رجل خمسيني من داخل سيارته بصحبة زوجته وأبنائه بالتحرش بفتاة عشرينية بالشارع، كما تروي إحدى الفتيات. وعندما شرعت بمواجهة أحد المتحرشين، الذي لم يتردد بضربها في وسط الشارع وسبها ووصفها بـ"العاهرة"، حتى تجمع المارة بعد وقت من الاعتداء لتخليصها من بين يديه، وتوجيه اللوم لها لأنها لو كانت "محترمة" لم يكن ليتعرض لها بهذا الشكل.

هذا الواقع بحالاته، أسفر عن خطابين في الإعلام تنحصر فيه قضية التحرش بأنها مجرد صراع غرائزي، المرأة فيه محل فتنة وإثارة وبضاعة رخيصة، يتعامل معها الرجل باستغلال، بسبب الجهل والفقر والكبت الجنسي. وفيما يحاول أحد فريقي هذا الخطاب تحديد الأزمة عند سفور المرأة وعريها، يعرج الأخير على استعادة الماضي المفقود الذي كانت فيه القاهرة واحة الليبرالية، تظهر في شوارعها السيدات بدون غطاء الرأس وبملابس خفيفة تكشف عن ساقيها وذراعيها بدون أن يعترضها أحد.

فريقا هذا الخطاب اللذان يبدوان خصمين في المعركة، وأحدهما نقيض الآخر، إنما ينطلقان من مرجعية واحدة والخلاف بينهما ظاهري، يستخدم كلاهما نفس آليات التفكير المؤدية لنفس النتائج وتكريس الإنطباعات والأفكار ذاتها التي تروج للتحرش الجنسي وتمنحه المبرر والشرعية والاستمرارية.

وسواء التجأت المرأة إلى تغطية جسدها بدون أن تدع ثغرة منه مكشوفة للمراقبين والمتطفلين أو استجابت للخطاب المضاد، ففي الحالتين ليس ثمة تحرير للمرأة بقدر ما هو ترسيخ لذهنية تسليع المرأة والتعاطي مع جسدها باعتباره مادة قابلة للانتفاع بها وحيازتها للتسري والمتعة والاستباحة.

وفيما تظل هذه الثنائيات الجدلية لا تعكس سوى مظلومية تاريخية بحقوق النساء المضمرة، دون تحريك وحل لها، ثمة دور آخر لا تكف عن تأديته، حيث تعزل قضية التحرش عن سياقاتها الحقيقية وتصفية الواقع وعناصره الذي تنشط داخله وتؤكد فعاليتها، بالإضافة إلى التعمية عن المستفيدين من بقاء وباء التحرش والأدوار الرئيسية التي يتم توظيفه فيها.

ففي عام 2005، قامت مجموعة من البلطجية تابعة للنظام وقتها بسحل المتظاهرين والاعتداء الجنسي على الصحافيات، خارج مقر نقابة الصحافيين، أثناء احتجاجهن على التعديلات الدستورية في ما عرف حينذاك بـ"الأربعاء الأسود".

وهو نفس المشهد الذي تكرر مع ظاهرة ما عرف بـ"المواطنون الشرفاء"، بعد الثلاثين من يونيو/ حزيران، بقيام مجموعة من البلطجية بالاعتداء على الصحافيين والتحرش الجنسي بالصحافيات أمام مقر نقابتهم بعد اقتحامها يصادف أنه أربعاء أسود جديد في 4 مايو/ أيار العام الماضي.

اللافت أنه في الواقعة الأولى التي استغلت فيها السلطة البلطجية للاعتداء على المتظاهرين والمحتجين على التعديلات الدستورية، خلقت شرعية للتحرش الجنسي وانتهاك الأضعف باستمرار سواء كانت المرأة أو غيرها.

ففي العام التالي، خلال أيام عيد الأضحى، نشر المدونون عبر الإنترنت اعتداء جماعيا على النساء بوسط القاهرة، حيث كانت المدونات وقتها الأداة الرائجة قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تشكل ضغطا مجتمعيا يفضح قمع النظام وانتهاكات الشرطة والتعذيب في السجون وخرق المسكوت عنه في المجتمع وتجاوز السقف الإعلامي ومنافسته على مصداقيته.

وفي ظل تهافت خطابين تقدم مقولاتهما تبريرات باهتة بدون مواجهة وفضح لمنظومة التحرش، وأسباب تمددها بهذا الشكل، وتحديد "الخصم الاستراتيجي الذي هو الفاشية، الفاشية في رؤوسنا وفي سلوكنا اليومي، التي تدفعنا إلى حب السلطة، وإلى تمني امتلاك كل شيء يسيطر علينا ويستغلنا"، كما يصفها فوكو.

وبخلاف ذلك، لن تظفر المرأة بأي حقوق وستتضاءل فرص تمكينها الحقوقي والمجتمعي والسياسي. وحتى مع الالتفات لوضع تشريعات قانونية تم وضعها وصياغتها خلال الأعوام القليلة الماضية، تبدو ضعيفة وبدون تعريفات واضحة للعنف الجنسي وللاغتصاب، فضلا عن تفعيلها ووجود وعي مجتمعي بها.

المساهمون