التجربة بعد الخطأ

التجربة بعد الخطأ

20 ديسمبر 2019
شارك الطلاب بقوة في الاحتجاجات الشعبية (بلال بنسالم/ Getty)
+ الخط -

جامعات الجزائر ومعاهدها ومدارسها المتخصصة تزيد عن مئة مؤسسة، وهي جميعاً خارج التصنيف العالمي، فترتيب أحسن جامعة جزائرية لعام 2016 كان في الرتبة 2613، وأكثر من 97 في المائة من المؤسسات الجامعية الباقية تعدت ترتيب الـ4000، ما يؤشر إلى معضلة كبرى تعانيها البلاد. وعليه فإن الجامعة الجزائرية تعيش اليوم وضعاً لا تحسدها عليه جامعة ما في هذا الكوكب، لجهة المستوى التعليمي والبحثي والتربوي، فضلاً عن الدور الوطني الذي يتوجب عليها أن تلعبه. لذلك كانت هناك مطالبات واحتجاجات تنادي بتحسين أوضاعها ودفعها كي تكون على مستوى معقول من خلال توفير الإمكانات البشرية والمادية. وهذا لم يتحقق أبداً رغم وفرة الإمكانات خلال فورة أسعار النفط خصوصاً.

والواقع أن تخصصات عديدة عاشت على شفير الهاوية، فطلبة الصيدلة، طب الأسنان، الهندسة المعمارية وغيرهم الكثير كادوا يدخلون في موسوعات غينيس السنوية بالنظر لعدد الإضرابات التي نفذوها، دون أن يحصلوا على النتائج المرجوة من تحركهم. ومن خلال تجربتهم تبين لهم أن سر النهوض بأوضاعهم مرتبط بإحداث تغيير سياسي ينقل مؤسسات التعليم العالي من مرحلة الجمود إلى مرحلة الانطلاق. كان القيد الذي يحكم عليها بالتخلف هو الماضي، رغم ما بذله الطلاب من دماء وهم يدافعون عن استقلال بلادهم في مواجهة الاستلاب عبر الفرنسة وغيرها. وهو دور لم يتخلوا عنه مع الاستقلال، وكما سقط شهداء بالأمس البعيد مقاومين من أجل حرية بلادهم، سقطوا في الأمس القريب لدرء الحرب الأهلية والإصرار على الحوار من أجل حل المشكلات المتراكمة والضاغطة على حياتهم والمدمرة لمجتمعهم.

والمجتمع الجزائري مثله مثل مجتمعات البلاد العربية لجهة وزن وكثافة المعدلات العمرية الشابة بين سكانه، وهي أجيال تحمل تطلعات لم يعد لها أن تقتنع أن تضحيات آبائها وأجدادها يجب أن تظل مبرراً لتخلفها الراهن. كما أن المناورات لم تعد تنطلي عليها وتدفعها إلى خفض سقف توقعاتها وانتظاراتها. من هذا المدخل، ولأنهم يرون ما يحدث نجحوا عبر الإصرار في إزاحة رموز عهد بوتفليقة واحداً واحداً، دون بلوغ اللحظة الحاسمة في تكريس انتصار الخيار الديمقراطي كمدخل لحل المعضلات التي تسقط على كواهلهم وتدفع بلادهم نحو قاع اجتماعي ومعيشي وعلمي.



لذا لم يكن بعيداً عن السياق الشبابي والطالبي الجزائري إطلاق الموجة الثانية من الربيع العربي، خلافاً لما توقعه البعض من استمرار انسحاب هؤلاء الشباب من العمل السياسي والتغييري العام بعد الضربات الموجعة التي أصابتهم خلال الأعوام الماضية، أو الانخراط في مجرى تطرف فكري وحركي يعتمد العنف السياسي ونموذجه التنظيمات التكفيرية. كلا الخيارين الأخيرين حدث عكسهما تماماً وخاض الطلبة الجزائريون في معترك التغيير من خلال الأدوات والوسائل الديمقراطية التي لم تترك مجالاً لقوى القمع أن تختبر آلتها العنفية عليهم وعلى سائر المواطنين المعبرين عن نزوعهم لبناء المستقبل. وللوصول إلى تحقيق هذا الإنجاز لا بد من رسم الاستراتيجية الملائمة للتعامل مع تغير الوضع السياسي، بشكل يتيح لها الإفادة من التطورات وتقليص كلفة التحرك عبر تشكيل تنظيم قوي مبني على روابط نقابية ومع بناء آليات للتضامن الاجتماعي، بما يمكنها من تأطير مطالبها ضمن شبكة المطالب المجتمعية وتقديم خطاب يتجاوز حدود الجامعات إلى رحاب المجتمع من أوسع أبوابه.

*باحث وأكاديمي

المساهمون