التباسات "إحراق" وخفاياه: انتفاء الملل

التباسات "إحراق" وخفاياه: انتفاء الملل

03 ديسمبر 2018
"إحراق" للكوري الجنوبي لي تشانغ دونغ (فيسبوك)
+ الخط -
يُعتبر "إحراق" أحد أعقد وأعمق ما قدّمه المُخرج الكوري الجنوبي لي تشانغ دونغ (1954)، الذي بدأ الإخراج قبل 20 عامًا، أنجز فيها 6 أفلام فقط. عن فيلمه الأخير هذا، فاز بجائزة "الاتحاد الدولي للنقاد" في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي

يُمكن اختزال خطوطه العريضة بكلمات قليلة: حبّ، غيرة، فقدان، طبقة، شرّ، عنف. لكن الاختزال شديد السطحية، مُقارنةً بالعمق المُحمَّلة به معاني تلك الكلمات في الفيلم. فالسينمائي مُهتمّ بالأدب العالمي، كالتركي نوري بيلغي جيلان. فيلمه "إحراق" (148 د.) مأخوذ عن قصّة قصيرة للياباني هاروكي موراكامي بعنوان "إحراق الصوبات"، ذات الصفحات الـ18 (النصّ الإنكليزي)، الصادرة في مجموعة "اختفاء الأفيال" (1993). قصّة موراكامي ليست ذات أهمية كبرى، أدبيًا وإنسانيًا؛ إلا أن اشتغال لي تشانغ دونغ عليها أكسبها قوة كبيرة، ومنحها أبعادًا عميقة، غائصًا بها في الذات الإنسانية، وفي التجربة الوجودية للفرد.

تتناول القصّة حكاية رجل متزوّج يتعرّف إلى فتاة تصغره سنًّا. يُعجب بها. لا تأبه بوضعه الاجتماعي والمادي. يتقاربان أحدهما من الآخر. تنشأ عواطف بينهما. ذات يوم، تسافر الفتاة إلى الجزائر وتزور شمال أفريقيا، ثم تعود رفقة شاب ثري مثقّف، التقته في تونس. تنعقد صداقة تنافسية غريبة بين الرجلين، أساسها مجهول، لكنه مُتمحور حولها، هي التي تختفي تدريجيًا، حتى تتلاشى من حياة كلّ واحد منهما. قبل الاختفاء، تعترف أن الشاب الثري يهوى إحراق الـ"صوبات" للتسلية.

فكرة إحراق الـ"صوبات" دافع لموراكامي إلى نسج أحداث القصّة، المنتهية مع انتهاء سرد تفاصيل حادثة مُثيرة؛ ودافع إلى اشتغال لي تشانغ دونغ وأو يونغ ـ مي على السيناريو، الذي أكسب القصة ميزات كثيرة. أصالة تشانغ دونغ، كمخرج كبير مُرهف، جعلته يُعالج مكامن الضعف في النص الأدبي غير المُكتمل، مع الإبقاء على ما هو مُكتمل. هكذا يُعالج الأدب، الذي يصلح أصلاً لتحويله إلى سينما. طبعًا، احتفظ الثنائي تشانغ دونغ ويونغ ـ مي بالعمود الفقري للقصة (إحراق الصوبات)، وبالشخصيات الـ3: الريفي يونغ سو (يو آه إن)، وجارته وصديقة طفولته هاي ـ مِي (يون يونغ ـ سو)، والثري الوسيم بن (ستيفن يون). عملا أيضًا، قدر الإمكان، على تعميق الخلفيات النفسية والاجتماعية والطبقية لكلّ شخصية على حدة. بالإضافة إلى هذا، اختيار المُخرج للممثلين الـ3 موفّق جدًا، ما أثرى فيلمه كثيرًا. لذا، يصعب حقًا نسيان الشخصيات ومصائرها، بفضل العمق الذي اكتسبته، والأداء الذي قدّمته، ما منح التفوّق للنص السينمائي على النص الأدبي.

لكن الأمر لا يتعلّق بالتفوّق. الوسيطان مُختلفان أحدهما عن الآخر كلّيًا، كما القواعد. ما سبق يهدف إلى تبيان كيف كتب هاروكي موراكامي نصّه، مبديًا اهتمامًا بغرابة حادثة ترتكبها شخصية ليست محل شبهات؛ وكيف اشتغل المُخرج والسيناريست على تعميق الشخصيات، بخلق عوالم ثرية لها، كفيلة بأنّ تُشكّل لكل منها فيلمًا خاصًا بها، عبر مُفردات صغيرة للغاية: الـ"بانتومايم"، والقطّ غير الموجود، والصوبات المحترقة أو التي ستُحرق. هناك أيضًا فكرة الأشياء الموجودة لكنها غير موجودة أو غير مرئية في الوقت نفسه: أين هي؟ أين القط والبئر، والأهم أين الصوبات؟ هل من حريق يحدث لها بانتظام أم للأمر أبعاد أكبر وأعمق، تُحيل إلى الوجود والنفس البشرية المُعقّدة والمركّبة.

في الكلام على إحراق الصوبات، وعلى كلّ ما تعلق بها من مشاهد، نبرة فلسفية ونفسية وطبقية وذكورية، تتجاوز مسألة التنافس على فتاة. هناك حكمة لا يُمكن إغفالها، مفادها أن أكثر الأشياء التي نوليها اهتمامنا وحبّنا ورعايتنا، ربما تكون هي فعلاً أهم الأشياء التي علينا أن نتوخّى الحذر بشأنها أكثر من غيرها. ولو تمّ تطبيق هذه الحكمة، ووضعها في الأذهان فإن مُشاهدة الفيلم مجدّدًا، تجعله مختلفًا للغاية، إذْ سيكشف حينها عن أبعاد أعمق، كانت مُتوارية.
يبدأ "إحراق" بقصّة حبّ سريعة ومُلتهبة وعاصفة. حب صادق من جانب يونغ سو، لكنه ملتبس بشهوة جنسية وفراغ حياتي وفقدان لمعنى أو هدف. لا اعتراض على العلاقة من جانب هاي ـ مي، لكنها لا ترغب في التورّط كليًا، مُفضّلة البقاء عند حدود تتجاوز الحب والصداقة والجنس. ومع ظهور بن، وتطوّر الأمور بين شدّ وجذب وصراع مُضمر للفوز بالفتاة، تختفي هاي ـ مي في الثلث الأخير من الفيلم، المتحوّل حينها إلى فيلم إثارة وغموض. لاحقًا، تتكشّف هويات الشخصيات والحقيقة غير المتوقّعة أبدًا لكلّ واحدة منها. ثم تأتي نهاية مليئة بالعنف والدموية والعبثية، هي أيضًا غير مُتوقَّعة نهائيًا من الشخصيات الرقيقة والمُسالمة، والغارقة في الحب، والباحثة عن السعادة ومعنى الحياة والوجود.

هذه شخصيات من لحم ودم، مكتوبة ببراعة كي تنمو وتتطوّر، فنرصد التحوّلات الطارئة عليها وعلى حيواتها. غموضها أو هوياتها الشبيهة بقمة جبل الجليد، مُعبَّر عنها خير تعبير عبر الإضاءة النصفية، وأحيانًا عبر الضباب المُلوَّن الظاهر في بعض المَشَاهِد. ورغم أن الكثير مما يحدث لتلك الشخصيات لا يُدخِل عليها أيّ تطور درامي كارثي يدفعها إلى أي تغيير ولو طارئاً، إلّا أننا نلمس أثر التغيير الجذري عليها. هنا، تُطرح أسئلة: هل كان هذا حقّاً كامنًا في الأعماق، من دون أن تدري الشخصيات به، ثم برز مع أولى التجارب الحياتية الحقيقية؟ أيُفترض بالمرء أن يتوقّع الشر من الشخصيات البسيطة المُسالمة، بينما تحمل كلّ واحدة منها نقيضها في طياتها؟ أم أن الشخصيات ليست هكذا، بل إن ما يُحرّكها هي ذواتها المتورِّمة، التي تنفجر مع أول احتكاك يخدش سطوحها الهشّة؟

من هي تلك الشخصيات تحديدًا، وما الذي يقودها ويحكم تصرّفاتها؟ أهو الفراغ في حياة كلّ واحدة منها، أم الرغبة في الآخر، أم الخوف من الوحدة، أم المال، أم الاشتياق الجنسي؟ أم هذا كلّه، وغيره؟ هل تكتشف كلّ واحدة منها ذاتها عبر تماسها مع الآخر؟ ما الذي يُحرّك يونغ سو، وما هدفه في الحياة غير الدفاع عن قضية والده، ومحاولة إخراجه من السجن، بينما هو نفسه ضحية تربيته العنيفة؟ ما الذي اقترفه ليُدفع به دفعًا في خضم تلك العلاقة العاطفية والجنسية والتنافسية، التي لم تكن في حسبانه، هو الكاتب الذي لا يعرف بعد كيف يشرع في الكتابة، ولا عن أي شيء يكتب؟

من هي هاي ـ مي؟ هوائية، شاردة، عابسة؟ هناك إحساس يُلازمها قوامه الترقّب المُغلّف بالتوتّر. ترقّب لا يرتقي إلى درجة الخشية من وقوع أخطار، أو التشاؤم المُطلق من حدوث مكروه. بمفردها تعاني وحدة أليمة، وإذْ بها مع رجلين في الوقت نفسه، لكلّ واحد منهما صفات ترغب فيها وتحتاج إليها بشدّة. ليس الأمر مأساة أو تراجيديا مُتعلّقة بصراع المال والجاه والقلب والأمان النفسي والعاطفي. بالنسبة إليها هو أقلّ من هذا، وربما أعقد. فهي شخصية شديدة التركيب، يصعب فهمها رغم بساطتها. مردّ هذا إلى أنها هي نفسها لا تدري شيئًا عن نفسها وصراعاتها، فهي لا تُدير معركتها مع الحياة نهائيًا، تاركةً للحياة أن تقود نفسها كيفما اتفق.

أما بن فمريض نفسي عصري. ثري ومُثقّف، ينتمي إلى أرقى طبقات المجتمع. على قدر راق من التعليم والذوق والكياسة واللباقة والذكاء. يقرأ ويليام فوكنر. وحيدٌ، ومَنْ حوله يُحبّه. طبيعة عمله غير معروفة. هادئ وخجول ومنطوٍ قليلاً على نفسه، ولا يكشف عما في داخله حتى إلى أقرب الناس. ربما ليس مريضًا، أو ربما مرضه ليس خطرًا، لكن لا شك في أن جانبًا شريرًا ومُدَمِّرًا وانتقاميًا موجودٌ في داخله، حتى وإن لم يهدف إلى أذية البشر، أو أي كائن حي. أم أنه على نقيض هذا كلّه تمامًا، هو الحكيم الرواقي، الذي يأتي بما لن يفهمه غيره إلا لاحقًا، أو في المستقبل البعيد؟

تقنيًا وفنيًا، يحتوي "إحراق" على السمات كلّها الخاصّة بسينما لي تشانغ دونغ: الإيقاع شديد البطء؛ والشخصيات المرسومة بدقّة بالغة، والتي تتطوّر وتتشكّل على مهل؛ ودقّة مفردات الحوار رغم واقعيتها؛ والأداء التمثيلي بالغ القوّة والاتزان وغير المتصنِّع. أخيرًا، الطول الزمني، بعض الشيء، الذي يُميّز أفلامه، وإن انتفى الشعور بالملل.

المساهمون