14 أكتوبر 2015
التاج والعمامة والمشنقة
جورج طوق (لبنان)
غالباً ما روى الشيطان ريشته من محبرة الحلف بين المُتوَّج والمُعمَّم، ليَكتب ملاحم الظّلم والقهر بحقّ مسلوبي الطالع، ويطوِّع كلّ قرون التاريخ بدفع توراتيٍّ، من عصبية ملوك السماوات ومِقصلة ملوك الساحات، حتّى القرن الثامن عشر الذي في "بدئه كانت الكلمة" التي أطلقت العلاج للقصور العقلي للبشريّة، وشرارة الحرب العالميّة، ما قبل الأولى، لسحب أوراق الحريّة والسلامة والحنطة من براثن جُباة الأنفاس المتحالفين حصراً على رقاب العباد.
جزَم الفرنسّي دنيس ديدرو (1713-1784) قبل ثلاثة قرون أنّ الإنسان لن ينعم بالحريّة، قبل شنق آخر الملوك بأحشاء آخر رجال الدّين، بأكثر تصويبات الحركة الفكرية الغربية جرأة وراديكالية على تحالف التّيجان والعمائم، في زمنٍ اكتسبت فيه مفاهيم تمرُّد أهل العقل على أهل الحكم والدّين جاذبيّة هائلة، ساهمت في قلب اتجاه مسالك السلطة. صَدَّقَت محطات التاريخ اللاحقة على كلّ فصول نبوءة التلميذ اليسوعّي الَّذِي شكّك بجرأةٍ غير مسبوقة بالمحرَّمات الارضيّة والسماويَّة التي شرّدت عن جسِّها الأذهان المنصاعة للقدر، لتهوي بين مسلّمات الأحاديث. جرأة ديدرو وضعته خلف قضبانٍ لم تستطع احتواء إناراته، فتسلّلت إلى أروقة المحكمة الفرنسيّة، وقاعات بلاط لويس الخامس عشر على مفاتن "مدام دو بومبادور" التي ساندته وبعض الوزراء، ليتسنّى له وزميله العلّامة، جان دلانبير، إنجاز الموسوعة الرائدة (l'Encyclopédie)، التي اجتاحت المجتمعات الفكريّة، وتغلغلت في أذهان القدريّين، فأضحوا "يعلمون ماذا يفعلون". التقطت الدوائر الأرستقراطية والإكليركية تردُّدات الهزَّات المدمِّرة لمخطوطات الْعَدُو الفيلسوف، لم تفلح محاولاتهم المسعورة في دفن مساره، سلبوه زملاءه وناشريه، فحمل صليبه وحيداً على جلجلة المفاهيم الرائدة، وكتب ما يُقارب اثنين وسبعين ألف مقالة، رفعت منسوب العقلانيّة الجماعيّة، ونشرت أوبئة الحريّات والعلم، كطاعون القرون الوُسْطَى، لتجعلْه "نورا للعالم".
تحيا موسوعة ديدرو قرنها الثّالث في كلّ لغّات الأرض المكتوبة والرقميّة، ويحيا التحالف الشيطاني متقوقعا في التخوين والتكفير.
أصدر معمّمو الثورة الاسلامية في إيران فتوى "إعدامات 1988"، في صيف دامٍ أزهقت طقوسه السادية حصيلة غير رسمية من ثلاثين ألف مُكبَّلاً سياسياً من اليساريين المرتدّين و"مجاهدي خلق"، أعداء الله لاختلاف الدّين ومعارضين غير تائبين لسطوة ربّ العالَمين. في مقاربةٍ من القرون المظلمة، صنَّفت الثورة الموت بأسواط الجلادّين انتحاراً، فمن رفض بازار الصَّلاة مقابل الجلدات، أراد لنفسه الموت. عانت الثورة متلازمة "رهاب القلم" المستعصية، فكمّت أفواه عشرات الصحف والمجلات، فصَلَت عشرين ألف مدرِّساً كما أغلقت أبواب الجامعات عامين، علّها تخلو من "المتَغَّرِبين" بأفكار كاتب "الموسوعة" العصيّة على التطويع.
ليست الضفّة المعاكسة لبلاد فارس من الخليج العربي بالمدينة الفاضلة، فالتيجان والعمائم في شبه الجزيرة يرقصون الڤالس، برشاقة فلاحّي باڤاريا، فوق السجّاد الأحمر المستورد بالأسود المنهوب؛ هم بالحكم متناغمون، بالثروة مُتمكِّنون وبالحريّة عابثون غير آبهين.
خلت تيجان القارّة العجوز المرصّعة من الرأفة، زرعت جنون العظمة والبذْخ والتسلّط في رؤوس حامليها وهوت عنها أمام واقعية جون لوك وديكارت والكثيرين من ملهمي ديدرو، كاتب رواية "جاك القدَري وسيدُه" الشهيرة.
الأمة شرَّعت لنفسها التصرُّف بسطور أفلاطون في الجمهورية، فلم تُنجب غير أنظمة هجينة، فيها استُبدلت القلاع الملَكية بقصور رئاسية والكنوز المعدنية بحسابات مصرفية والمجانيق بمقذوفات ناريّة. بَقِي الفقر والقهر بوليصة تأمين القصر، وبقي التاج المُموَّه بالدستور يَنشِد الخلود بالسجون والمشانق وحفلات التجويع وغازات الكلور والخردل والسارين.
لا يقيم دنيس ديدرو وزناً لغير سلامة الإنسان وارتقائه بالمعرفة، قال مرّة "... من المهم جدا ألا تخطيء البقدونس بالشَّوْكَران ومن غير المهم مطلقا أن تؤمن بالله أم لا". وحدها المعرفة تنقذك من نبتة الشَّوْكَران السامّة؛ وحدها المعرفة تنقذنا.
جزَم الفرنسّي دنيس ديدرو (1713-1784) قبل ثلاثة قرون أنّ الإنسان لن ينعم بالحريّة، قبل شنق آخر الملوك بأحشاء آخر رجال الدّين، بأكثر تصويبات الحركة الفكرية الغربية جرأة وراديكالية على تحالف التّيجان والعمائم، في زمنٍ اكتسبت فيه مفاهيم تمرُّد أهل العقل على أهل الحكم والدّين جاذبيّة هائلة، ساهمت في قلب اتجاه مسالك السلطة. صَدَّقَت محطات التاريخ اللاحقة على كلّ فصول نبوءة التلميذ اليسوعّي الَّذِي شكّك بجرأةٍ غير مسبوقة بالمحرَّمات الارضيّة والسماويَّة التي شرّدت عن جسِّها الأذهان المنصاعة للقدر، لتهوي بين مسلّمات الأحاديث. جرأة ديدرو وضعته خلف قضبانٍ لم تستطع احتواء إناراته، فتسلّلت إلى أروقة المحكمة الفرنسيّة، وقاعات بلاط لويس الخامس عشر على مفاتن "مدام دو بومبادور" التي ساندته وبعض الوزراء، ليتسنّى له وزميله العلّامة، جان دلانبير، إنجاز الموسوعة الرائدة (l'Encyclopédie)، التي اجتاحت المجتمعات الفكريّة، وتغلغلت في أذهان القدريّين، فأضحوا "يعلمون ماذا يفعلون". التقطت الدوائر الأرستقراطية والإكليركية تردُّدات الهزَّات المدمِّرة لمخطوطات الْعَدُو الفيلسوف، لم تفلح محاولاتهم المسعورة في دفن مساره، سلبوه زملاءه وناشريه، فحمل صليبه وحيداً على جلجلة المفاهيم الرائدة، وكتب ما يُقارب اثنين وسبعين ألف مقالة، رفعت منسوب العقلانيّة الجماعيّة، ونشرت أوبئة الحريّات والعلم، كطاعون القرون الوُسْطَى، لتجعلْه "نورا للعالم".
تحيا موسوعة ديدرو قرنها الثّالث في كلّ لغّات الأرض المكتوبة والرقميّة، ويحيا التحالف الشيطاني متقوقعا في التخوين والتكفير.
أصدر معمّمو الثورة الاسلامية في إيران فتوى "إعدامات 1988"، في صيف دامٍ أزهقت طقوسه السادية حصيلة غير رسمية من ثلاثين ألف مُكبَّلاً سياسياً من اليساريين المرتدّين و"مجاهدي خلق"، أعداء الله لاختلاف الدّين ومعارضين غير تائبين لسطوة ربّ العالَمين. في مقاربةٍ من القرون المظلمة، صنَّفت الثورة الموت بأسواط الجلادّين انتحاراً، فمن رفض بازار الصَّلاة مقابل الجلدات، أراد لنفسه الموت. عانت الثورة متلازمة "رهاب القلم" المستعصية، فكمّت أفواه عشرات الصحف والمجلات، فصَلَت عشرين ألف مدرِّساً كما أغلقت أبواب الجامعات عامين، علّها تخلو من "المتَغَّرِبين" بأفكار كاتب "الموسوعة" العصيّة على التطويع.
ليست الضفّة المعاكسة لبلاد فارس من الخليج العربي بالمدينة الفاضلة، فالتيجان والعمائم في شبه الجزيرة يرقصون الڤالس، برشاقة فلاحّي باڤاريا، فوق السجّاد الأحمر المستورد بالأسود المنهوب؛ هم بالحكم متناغمون، بالثروة مُتمكِّنون وبالحريّة عابثون غير آبهين.
خلت تيجان القارّة العجوز المرصّعة من الرأفة، زرعت جنون العظمة والبذْخ والتسلّط في رؤوس حامليها وهوت عنها أمام واقعية جون لوك وديكارت والكثيرين من ملهمي ديدرو، كاتب رواية "جاك القدَري وسيدُه" الشهيرة.
الأمة شرَّعت لنفسها التصرُّف بسطور أفلاطون في الجمهورية، فلم تُنجب غير أنظمة هجينة، فيها استُبدلت القلاع الملَكية بقصور رئاسية والكنوز المعدنية بحسابات مصرفية والمجانيق بمقذوفات ناريّة. بَقِي الفقر والقهر بوليصة تأمين القصر، وبقي التاج المُموَّه بالدستور يَنشِد الخلود بالسجون والمشانق وحفلات التجويع وغازات الكلور والخردل والسارين.
لا يقيم دنيس ديدرو وزناً لغير سلامة الإنسان وارتقائه بالمعرفة، قال مرّة "... من المهم جدا ألا تخطيء البقدونس بالشَّوْكَران ومن غير المهم مطلقا أن تؤمن بالله أم لا". وحدها المعرفة تنقذك من نبتة الشَّوْكَران السامّة؛ وحدها المعرفة تنقذنا.
مقالات أخرى
26 يوليو 2015
21 يونيو 2015
04 يونيو 2015