Skip to main content
البوعزيزي والثورة المستمرة
عبد الرحمن مزارق (اليمن)
قضى التونسي، محمد البوعزيزي، أجله متأثرا بحروقه؛ إذ كان أشعل النار في نفسه وقودا لحياة جديدة، وشرارة رفضٍ للظلم، شرارة امتدَّ نورها إلى أكثر من قطر عربي.
والسبب، كي لا ننسى، شرطية في البلدية، صفعته، بعد أن ألقته أرضا بعون مساعديها، ثم صادرت عربة الفواكه التي تُعيل محمد، بائع الفواكه، مُريد الحياة. وهم يصادرون بضاعته نهباً إلى سياراتهم، صاح البوعزيزي في وجه الشرطية معترضا: لماذا تفعلين هذا بي؟ أنا إنسان بسيط، لا أريد سوى أن أعمل؟
هل بعد هذا من قهر حلّ على هذه الروح العملية البريئة؟ بغيٌ كرّسه استبداد نظام حكم ديكتاتوري، لولاه لكان محمد ذي السادسة والعشرين من العمر في الجامعة معزّزا مكرّما.
بعد أسبوعين من الحادثة، استشهد محمد متأثرا بجراحه، بعد أن زاره الطاغية زين العابدين بن علي، رئيس تونس حينها، في محاولة بائسة لتهدئة الشارع التونسي المشتعل ثورة ضد نظام فوضوي، وتضامنا مع الثائر الأول. نظامٌ أحرق البوعزيزي، وأحرق قبله آلاف التونسيين، وما هي إلا أيام حتى آتت الثورة أكلها؛ فاق بن علي بعد أكثر من عقدين من البطش، وخرج على الشعب بعبارته المستسلمة "فهمتكم". لقد أرعد البوعزيزي فرائص البغاة، فبعد أقل من شهرين، سحبت عربة الفواكه البساط من تحت طاغية عربي آخر في مصر، الثورة تستمر.
في شهادته على العصر، تحدّث الشيخ عبد الفتاح مورو عن انتهازية بن علي، عن كذبه وتزويره، عن تشويهه حركة النهضة الإسلامية إبّان نشوئها، وعن انقلابه، في النهاية، على الحبيب بورقيبه، وكم كان الحديث مأساويا، بينما تنهمك الشعوب في التنمية والعمران؛ يتسلق اللصوص كراسي الحكم. مهلا أيها الظلمة: لن نغفل عنكم مرة أخرى، ألف وأربعمائة عام كافية جدا، وذكرى الدولة النبوية العادلة ما زالت حية في وجداننا.
لقد أيقظ الشاب الطيب ضمائر المظلومين في الأقطار العربية الأخرى، فلم تتوقف الثورة في تونس الربيع، أزهرت الشعلة في مصر واليمن وسورية وليبيا، وعرفت الشعوب بداية طريقها إلى الخلاص والتحرّر، هذا ما أثار غضب شذّاذ الآفاق، غادر بعضهم السلطة، وبعضهم قُتل لاحقا بطريقة مزرية. كان البوعزيزي صيحة في سكوت الشعوب الأسود، إلا أنّ تراكمات الاستبداد ليست هينة، ولا هي بالتي يُقضى عليها في يوم وليلة، ولا بد من مقاومة الثورات المضادة، فضريبة السكوت على الظلم باهظة، فلطالما صمتت الشعوب عقودا حتى أحكم الطغاة قبضاتهم عليها، وصاروا متحكمين في مصائر العباد، ومصادر عيشهم، لكن الشعب سيل جرار، ومتى تحرّك لا يمكن لأحد أن يوقفه.
إثر هذه الثورات، تحرّكت الثورات المضادة تمكر بالثوار، تساندها عواصم الانقلابات التي أزعجتها صحوة الضمير العربي، وقضّت مضاجعها مطالبةُ الناس بالحرية والحياة الكريمة، كانت (وما زالت) تلك العواصم المتصهينة الداعم الأول للأنظمة الساقطة، أبو ظبي والرياض، والقاهرة حيث أول نجاح باهت لأول ثورة مضادة على أول رئيس مدني منتخب، فك الله أسره.
هي ثوراتٌ علينا أن نلّقنها لأبنائنا؛ ليستمر حس مقاومة الاستبداد، ولكي لا تتكرّر علينا نماذج الحكم المستبدة، فلقد ولى إلى غير رجعة زمن الممالأة، واندثر فقه الطاعة العمياء، وعرفت الشعوب نور الحق من براثن التضليل.
جناية داء الاستبداد على الأمة الإسلامية كبيرة، تمادى المستبدون تسندهم عمائم السوء، ووصل بهم الأمر إلى ذبح صحفي ناصح، ونفاق صمت علماء البلاط على هذه الجريمة النكراء، بل ودافعوا عن أولياء أمرهم، ولكم قد فتحوا أفواههم في تجريم بوعزيزي. كفرٌ إدانة موتك يا محمد، ونفاقٌ الصمت عن الموت الذي غرسته الأنظمة فينا منذ عقود.
واهم من يظن أن الشعوب العربية بعد هذا ستتنازل عن حقها في الحرية والاستقلال، وإنما هذا التضعضع الذي نعيشه من طبيعة ما بعد الثورات، ولنا في الثورات الغربية عبرة، فمهما كانت الرحلة منهكة إلا أننا لن ننثني، ولن نخضع لبأس الثورات المضادة، سنظل نقاومهم ما برحت آنات المظلومين في معتقلاتهم، لن نخشى بطشهم، ولن نيأس مهما طالت الرحلة، إما حياة كريمة، أو شهادة عزيزة، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ولا عاقبة للظالمين.
يا ربيع الحياة، ازدانت من بعدك آمال خضراء، وأنارت شعلتك شوارع باريس، حيث تمثالك منارة للإنسان الحر الأبي. وها هي السودان تشتعل ثورة، ومهما اشتدّ بلاء الثورات المضادة، وقمعُ أنظمتها؛ ازددنا إيمانا بالثورة (الربيع العربي) وكلما تهافت سدنة الطاغوت فجورا في الدفاع عن سادتهم؛ زاد تمسكنا بالحرية، بقيم الثورة، وبمبادئها.