البنوك... أين تخفي أموالها؟

البنوك... أين تخفي أموالها؟

10 أكتوبر 2019
+ الخط -


حتى المرحلة الجامعية لم أكن أعرف شيئاً عن عالم البنوك والمصارف والبورصات، وبالتالي لم أكن على دراية بمصطلحات مصرفية بسيطة مثل الإيداع والادخار والتسهيلات الائتمانية والشيكات والاعتمادات المستندية وغيرها.

كنت فقط أعرف أسماء بعض البنوك الحكومية العامة من خلال قراءة الأسماء على فروعها القليلة في شوارع المدينة التي كانت مدرستي الثانوية تقع بها، كل ما كنت أعرفه هو مكاتب البريد التي كنا نطلق عليها في صعيد مصر اسم "البوسطة" وكانت تملأ القرى خاصة في الوجه القبلي، أحياناً كنا نحن الأطفال نودع بمكاتب البريد المبالغ الصغيرة التي كنا ندخرها من مصروف المدرسة البسيط، أو من خلال الأموال التي نحصل عليها من عملنا ونحن صغار في إجازة الصيف خاصة خلال موسم جمع القطن.

لكن عقب انتهاء المرحلة الجامعية والتحاقي بالعمل عرفت قدماي الطريق إلى البنوك، فأول راتب تلقيته كان عبارة عن شيك مستحق على أحد فروع البنوك العامة الواقعة بميدان المهندسين. أعترف بأنني عقب استلامي الشيك من الإدارة المالية بالجريدة التي كنت أعمل بها لم أكن سعيداً رغم أن هذا كان أول راتب في حياتي، ذلك لأنني ساعتها لم ألمس الفلوس بيدي ولم أشم رائحتها المعروفة، كل ما شعرت به هو أنني استلمت ورقة خضراء باردة الملمس يطلق عليها شيك ومدون بها اسمي.

ومن القسم الخارجي أو قسم الترجمة بالجريدة انتقلت خلال سنوات لأكثر من مهمة صحافية، تغطية أخبار جامعة الدول العربية، ثم وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية ومعها الغرف التجارية والصناعية، ثم وزارات التخطيط والمالية والصناعة والزراعة، إلى أن استقر بي الحال إلى تكليفي بمتابعة أخبار البنوك.

أعترف بأنني كنت مرعوباً من المهمة الأخيرة، لأن الصحافة المصرفية كانت حينئذ تخصصا جديدا داخل الصحافة الاقتصادية، وبالتالي كيف أتابع أنشطة البنوك وأنا لا أعرف ألف باء عنها وعن أنشطتها، كيف أتابع وليس لي أو لغيري سابق خبرة معروفة في هذا التخصص.

كنت ساعتها لا أعرف مقر البنك المركزي أو اتحاد البنوك والمعهد المصرفي، ولا أعرف ما الفرق بين البنوك العامة والخاصة والمشتركة والأجنبية، بل لا أعرف أبسط الأسئلة، ومنها أين تضع البنوك كل هذه المليارات التي تتلقاها يوميا من المدخرين أو المودعين، كيف تدير كل هذه الأموال، في حال حصول مستثمر على قرض ضخم بمليار جنيه كيف يحمل كل هذه الأطنان من النقود، هل يأتي بشاحنة أو سيارة نقل ليحملها بالأوراق النقدية متجهاً إلى بيته أو مقر عمله، أين مطبعة البنك المركزي، وعلى أي ورق تتم طباعة البنكنوت، كيف تجمع البنوك أموال المودعين من كل فروعها نهاية كل يوم، وكيف تعيد كل هذه الأموال صبيحة اليوم التالي؟
استشرت بعض الزملاء القدامى في الصحافة الاقتصادية، فأكدوا لي صعوبة مهمة متابعة أخبار القطاع المصرفي، وأن الكل يفر من هذه المهمة بسبب الصعوبة الشديدة في الحصول على خبر واحد من داخل البنوك، وخاصة أن أنشطة القطاع المصرفي تتسم بالسرية أصلاً، وأن أحد قوانينها يحمل اسم قانون سرية الحسابات المصرفية.

بل وأكدوا لي أن الحصول على موعد مع رئيس الوزراء أو أحد وزراء المجموعة الاقتصادية أسهل مائة مرة من الحصول على موعد مع رئيس أحد البنوك، فما بالك بالحصول على موعد مع محافظ البنك المركزي الذي لا يعرف 99.9% من المصريين شكله، وأحياناً لا يعرفون اسمه رغم أنه صاحب التوقيع الوحيد على أوراق البنكنوت المتداولة في الأسواق.

وعندما يعرف أحد الصحافيين الاقتصاديين القدامى أنني خريج كلية الإعلام جامعة القاهرة وليس خريج إحدى كليات الاقتصاد والعلوم السياسية أو التجارة أو إدارة الأعمال يمط شفتيه متراً ويقول لي "انسى.. إنها مهمة صعبة، فحتى خريجو هذه الكليات يفرون من متابعة أخبار البنوك، فكيف بخريج كلية إعلام مثلك".

حاولت أن أبحث عن صحافيين متخصصين في البنوك (صحافي مصرفي) لأستشيرهم وأسألهم عن خبراتهم، فلم أجد ولا صحافي واحد من هذا النوع، كان هناك صحافيون يغطون الاقتصاد بشكل عام، وأحيانا يغطي بعضهم وزارات التموين والمخابز أو الزراعة أو الصناعة والتجارة.

قبلت التحدي، ورحت أتخبط بين أروقة البنوك وصالات الفروع، أتعثر عشرات المرات وأنجح مرة، أحصل على خبر فأظن أنه مهم جداً، فاكتشف بعد ذلك أن البنك نشره في شكل بيان صحافي وزعه على كل الصحف أو نشره في شكل إعلان مدفوع في الصحف القومية.

أطلب مقابلة رئيس بنك، فيقال لي "هل أنت مجنون، هل من المعقول أن يترك رئيس البنك الذي يدير مليارات الجنيهات مهامه ويجلس مع صحافي مبتدئ لا يعرف الفارق بين البنك وشركة الصرافة، أو بين البنك والبورصة وسوق المال، أو الفارق بين السياسات النقدية والمالية والاقتصادية، ولم يسمع في حياته عن علوم مثل البنوك وإدارة الأموال والائتمان المصرفي والاعتمادات المستندية وخطابات الضمان وقواعد بازل الدولية". أقترب من سكرتيرة رئيس أحد البنوك الكبرى لأطلب بأدب شديد موعداً، فتطلب مني المرور عليهم بعد شهر وربما أكثر، أو تطلب مني مديرة مكتب رئيس البنك من وراء نظارتها السميكة أن أترك الأسئلة وستطرحها على السيد الدكتور رئيس مجلس الإدارة.

قلت لنفسي: لتكن البداية بالبنك المركزي، فهو أبو البنوك والرقيب على القطاع المصرفي والضامن الوحيد لأموال المودعين، في شارع قصر النيل الواقع وسط القاهرة. خطوت ببطء شديد نحو مقر البنك المركزي، فإذا بالأمن يستوقفني ليسألني: إلى أين أنت ذاهب، فأخبره: "إلى مكتب المحافظ"، فيسألني بسرعة: "وهل هناك موعد مسبق"، فأرد عليه: "لا"، فيرفض صعودي إلى الطابق الثاني حيث يقع مكتب المحافظ وبجواره نوابه ومساعديه.

شهور طويلة وأنا أواصل التحدي، لم أيأس، قلت لنفسي: ولماذا لا أبدأ من الصفر، لماذا لا أتعرف على صغار الموظفين وأتعلم على أيديهم مبادئ علم البنوك وأعرف بشكل عملي ما يدور داخل البنوك، وأتعرف منهم على كل الأمور الغامضة بالنسبة لي، وأبرزها أين تضع البنوك أموالها، وما حجم الخزن الحديدية التي تستوعب كل هذه الأموال من نقود وفضة وسندات، وأين يضع البنك المركزي احتياطي النقد الأجنبي والذهب المملوك لمصر، وكيف تمول البنوك أنشطة التجارة والعقارات.

نجحت الفكرة، وعندما نلت ثقة الموظف الصغير عرفني على مديره، ومديره عرفني على رئيس البنك ووزراء المجموعة الاقتصادية، ورئيس البنك والوزراء عرفوني على محافظ البنك المركزي، وعندما تنال ثقة المحافظ فإنك تنال ثقة كل هؤلاء.

وبعد مرور سنوات حظيت بثقة كل هؤلاء، لأنني التزمت بالمعايير نفسها المطبقة داخل البنوك وهي الأمانة والثقة والصدق وكتم الأسرار والعمل للصالح العام والمحافظة على أموال المجتمع ومدخرات المودعين وملاحقة ناهبي أموال البنوك وكشفهم للرأي العام، وأن تكون أميناً مع العاملين في البنوك.

ألزمت نفسي بألا أطلب منفعة شخصية من موظفي البنوك، ولذا لم أحصل على قرض رغم متابعتي لأنشطة البنوك على مدى سنوات طويلة، ولم أحصل على وحدة سكنية أو فيلا من مشروع مقام أو ممول من أحد البنوك، ولم أتدخل لتسوية ديون متعثرة مستحقة على أحد كبار رجال الأعمال مقابل عمولة ضخمة، حتى بطاقة الائتمان التي كانت بحوزتي حصلت عليها من نقابة الصحافيين.

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".