البلقان.. حرب لم تنتهِ

البلقان.. حرب لم تنتهِ

18 أكتوبر 2014

صرب يحرقون علم الناتو في مباراة مع ألبانيا (بلغراد/أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
يتجدّد تطرّف الروح القومية من بوابة كرة القدم، وهذه المرة في قلب البلقان، إحدى أكثر مناطق العالم تأثراً وتعلقاً بـ"القومية". كان يكفي أن "يهبط" علم ألبانيا الكبرى، عبر طائرة موجّهة إلكترونياً، على ملعب "بارتيزان" في بلغراد، عاصمة صربيا، حتى تندلع الاشتباكات بين المنتخبين الصربي والألباني، على خلفية محاولة الصرب تمزيق العلم. أسباب الإشكال الكروي وخلفياته وتداعياته باتت في عهدة الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، أما بلغراد وتيرانا، فانصرفتا إلى تغذية الحرب بينهما على وسائل التواصل الاجتماعي.

لم تولد "القومية" فجأة في ليلة بلغراد الساخنة، بل كانت نتيجة تراكمات متتالية. قد يكون جزء كثيف من الحروب البلقانية القديمة، قبل الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)،  قد تبقى في الذاكرة الشعبية، علماً بأن هذه الحرب بالذات اندلعت من البلقان، بعد مقتل ولي عهد النمسا، فرانتز فرديناند، على يد الطالب الصربي، غافريلو برينسيب، في ساراييفو، عاصمة البوسنة. كما أن الحرب الأهلية اليوغوسلافية (1992 ـ 1995) رفدتها بمزيدٍ من عناصر "القومية"، السياسية والدينية، خصوصاً أن الحرب بدأت على خلفية انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفكك الدول الدائرة في فلكه وفلك المنظومة الشرقية.

ما حدث في صربيا، لا يُمكن عزله عن المناخات "الاستقلالية" السلمية في أوروبا، من الاستفتاء على انفصال اسكتلندا عن بريطانيا في 18 سبتمبر/أيلول الماضي، إلى استفتاء انفصال كاتالونيا عن إسبانيا، في 9 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والذي عاد وتحوّل إلى مجرّد "استطلاع للمشاعر" فقط. باتت الروح "القومية" حاضرةً، أيضاً، في الانتخابات الأوروبية، الموحّدة والمتفرّقة، مع نموّ القوى اليمينية، وصعودها على موجة التقشف الاقتصادي والفقر والإسلاموية.

لا تتوقف "القومية" عند حدود الانتخابات والاستفتاءات، بل اتخذت أبعاداً عسكرية في أوكرانيا، من شبه جزيرة القرم إلى مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك. اصطدم الروس الأصليون في تلك المناطق مع الحكم المركزي في كييف. ودائماً باسم "القومية". وبات طبيعياً، بناءً على ذلك كله، أن تجد "القومية المتطرفة" نفسها في الواجهة من جديد، وفي البلقان تحديداً، التي لم تسترح فعلياً، وباتت "هدنتها"، التي تلت الحرب اليوغوسلافية، لا "اتفاق سلامها"، على شفير الهاوية.

الغريب، حقاً، أن أوروبا، التي سعت إلى إظهار وحدتها القومية والإثنية في قالب اقتصادي موحّد، مدعّم بتسهيلات المرور الداخلي، وحرية الاستثمارات وحركيتها، معطوف على اعتماد بعض دولها تأشيرة "شينغين" لغير الأوروبيين، أصبحت الأكثر هشاشة في تلك الوحدة. أضحت القارة العجوز، على سكة العودة بالقطار إلى الماضي القومي، بعد أن كانت تتطلّع إلى مستقبل أكثر وحدوية.

ولئن كانت الأسباب الاقتصادية هي التي وجّهت الأوروبيين إلى طريق الاتحاد، فإنها ستكون العامل الأساسي، الذي يؤدي إلى انهياره، إن تطورّت الأمور أكثر. فالكلام عن الضرائب والغاز والمهاجرين الأفارقة والعرب والمسيحيين والمسلمين وتنظيم "الدولة الإسلامية (داعش) والصليبيين، والنازية والفاشية والشيوعية، وغيرها، لم يعد مجرّد "ذكريات سابقة"، أليمة أو سعيدة، بل أضحى واقعاً، يضجّ في زوايا القارة القديمة.

لكن، تتخذ تلك الإشكالية أبعاداً أكثر حدّة في البلقان، لأسباب جيوبوليتيكة ودينية. فالبلقان، الممتدة على مساحة 666.700 كيلومتر مربع، بين أقصى رومانيا إلى مداخل كرواتيا لجهة سلوفينيا، تُعتبر مدخلاً أساسياً ومعبراً للبحريْن الأسود والمتوسط، وتُشكّل طوائفه الأرثوذكسية والكاثوليكية والإسلامية عوامل انفجار لا عوامل استقرار. ويُعدّ الوضع الاقتصادي البلقاني مثيراً للقلق، لفقر دوله، ولعدم تمكنها من اللحاق بركب الدول الأوروبية الغربية.

ما شهدته مباراة صربيا وألبانيا ليس مشهداً اعتيادياً، قد تجده في ملاعب أميركا الجنوبية مثلاً، بل هو مشهد يُذكّر بأن الحلول في البلقان لم تكن سوى مؤقتة، على مدار تاريخه، قبل حرب أخرى. ولم يخدم تقسيم الدول الحاجات الطائفية والقومية، ففي كل بلد من بلدان البلقان، أكثريات وأقليات، تُمهّد لانفجار آتٍ، ولربما بات أقرب من ذي قبل.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".