البعد الديني في أزمة كورونا

البعد الديني في أزمة كورونا

11 ابريل 2020
+ الخط -
أين موقع الأديان في الأزمة الراهنة التي فجرها انتشار وباء كورونا في العالم؟ سؤال برزت أهميته من إثارة هذا البعد في عدد من المستويات ذات الصلة بالأزمة، سواء على مستوى تفسير حدوث الوباء ابتداءً، ثم مستوى انتشاره وأماكن تفاقمه، وصولاً إلى مستوى السياسات والإجراءات التي تبنتها الدول في مواجهة الوباء، وكذلك من خلال جدالات متبادلة بين منتسبي الأديان حول هذه المستويات.
على مستوى التفسيرات: أمام تنامي مشاعر الخوف والقلق والعزلة التي أحاطت بالجميع، برزت أزمة روحية ودينية لدى كثيرين، اتجهوا إلى تقديم تفسيرات دينية للوباء، وأنه جندٌ من جند الله، يصبّ به (الوباء) غضبه على عباده غير المخلصين أمام تنامي المادّية والبعد عن الله، وعدم التورّع عن ارتكاب المعاصي، وفق تصوراتهم. وكانت بداية الاستهداف في الصين، لأنها، من منظور هؤلاء، دولة لا دينية، ومعظم سكانها ملحدون أو يعتنقون ديانات أرضية أو يؤمنون بفلسفات أخلاقية لمفكرين ومصلحين صينيين، ولهذا سلط الله عليهم العذاب بهذا الوباء، وكذلك انتقاماً من الصين جرّاء ما تقوم به تجاه المسلمين الإيغور، وانتشرت مقاطع فيديو تتناول عادات الصينيين ومأكولاتهم وانتهاكاتهم تجاه الإيغور. وما إن انتقل الوباء وتفشّى في إيران، ذات الأغلبية المسلمة الشيعية، انتقل التنمّر من الصين إلى إيران، وربط أنصار هذا التفسير تفشّي الوباء بالممارسات الدينية لبعض الطوائف الشيعية، وأنه غضب من الله على إيران جرّاء جرائم أهل القرار فيها في سورية والعراق (ولبنان)، وكذلك انتشرت فيديوهات وصور حول هذه الممارسات الدينية، والعمل على تشويهها والنيل منها. وعندما انتقل الوباء إلى أوروبا، وخصوصا إيطاليا وهولندا، برز أيضاً التفسير الديني واضحاً، والربط بين تفشي الفيروس وما سماه أنصار هذا التحليل الانحلال الأخلاقي والانهيار القيمي في هذه الدول، والتحذير من نهاية العالم، واستدعاء تنبؤات شخصيات وردت في كتب أو مقالات مرّت عليها سنوات.
وما إن انتشر الوباء في الدول الإسلامية ذات الأغلبيات السنية، وفي الدول العربية، حتى تراجع التفسير الديني، بدرجة كبيرة، وإن بقيت بعض ظلاله، حيث الربط بين انتشار الفيروس في هذه الدول بظلم حكام وفسادهم واستبدادهم.
على مستوى السياسات والإجراءات: تراجع التفسير الديني لانتشار الوباء، مع تعدّد السياسات 
والإجراءات، ذات البعد الديني، في مواجهته، والعمل على الحد من انتشاره، حيث برز من بين هذه السياسات وتلك الإجراءات تعدد الفتاوى الدينية من العلماء ورجال الدين في مختلف الأديان، عن ضرورة اتباع ما تنص عليه الكتب السماوية والسنن النبوية، من نظافة وعبادة والتزام ديني وأخلاقي، والبعد عن الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، وتجنب أماكنها. بل اتجه بعضهم إلى الدعوة إلى احتساء مشروب كحولي يحمل اسم "كورونا" لحماية المؤمنين من الوباء، واتجه آخرون إلى استخدام ما سماه "العطر النبوي" في مواجهة الوباء، متجاهلاً كل الإجراءات الاحترازية والنصائح الطبية من الهيئات والمؤسسات المعنية.
ومن ناحية ثانية، تعدّدت الدعوات لمنع التجمعات والصلوات الجماعية والاحتفالات الدينية، عند أنصار مختلف الديانات والمعتقدات، فعند البوذيين، تم وقف الاحتفالات بإحياء السنة القمرية الجديدة، وأعلنت المعابد إغلاق أبوابها أمام التجمعات الجماهيرية، واتجهت إلى بث الخطب والتعاليم الدينية عبر المواقع الإلكترونية. وكذلك الحال عند الطوائف الهندوسية، تم إلغاء الاحتفالات بمهرجان "هولي" للألوان. وفي أوروبا تحولت الفاتيكان إلى مدينة أشباح، واتجه البابا إلى البث المباشر عبر شاشات كبيرة في ساحة القديس بطرس، وأوقفت روما التجمعات الدينية الكاثوليكية في المدينة للمرّة الأولى منذ عام 1155. وعند اليهود تم إلغاء الاحتفالات والصلوات الجماعية، ومنع الزيارة إلى حائط المبكى، وإلغاء إحياء ما يسمّى "عيد المساخر ـ بوريم"، على الرغم من رفض بعض التيارات اليهودية الامتثال لهذه التوجيهات.
وعند المسلمين، ألغت الحكومة السعودية مناسك العمرة، وأُغلقت المساجد في المملكة، وتم فرض حظر جزئي على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة. بل وتداولت تقارير احتمالات إلغاء مناسك فريضة الحج الصيف المقبل. وفي معظم دول العالمين، العربي والإسلامي، تم وقف الصلوات الجماعية، وصلاة الجمعة، وحث الجميع على الصلاة في منازلهم، للحدّ من الاختلاط، وتجنباً لنقل العدوى.
ومن ناحية ثالثة، وفي مقابل عمليات الحظر والمنع، كان لافتاً صدور دعوات مسؤولين غربيين إلى الصلاة، من أجل رفع بلاء كورونا، ومن ذلك ما كتبه الرئيس الأميركي، ترامب، عبر حسابه الرسمي في "تويتر" عن اعتبار يوم 15 مارس/ آذار يوماً وطنياً للصلاة، منوهاً إلى أن بلاده، على مرّ التاريخ، تتجه إلى الله من أجل الحماية والقوة في مثل هذه الأوقات". وأثارت الدعوة هذه استهجان بعض علماء المسلمين، أنه في وقت الذي يدعو فيه ترامب إلى الصلاة، يغلق بعض حكام المسلمين المساجد، ويمنعون صلاة الجماعة.
إلا أنه مع تباين التفسيرات، وتفاوت السياسات والإجراءات، تبرز نقاط أساسية تجب مراعاتها، عند تحليل البعد الديني في سياقات هذه الأزمة:
أولها، تسييس البعد الديني، أي التحرّك انطلاقاً من اعتبارات سياسية في التفسير، وليس اعتبارات 
دينية خالصة، وكأن الأمر نوع من الصراع السياسي، تم توظيف العامل الديني فيه، لتحقيق أهداف سياسية، سواء في مواجهة دول أو جماعات أو مذاهب دينية.
ثانيها، اتجاه بعضهم في التفسير والتحليل للنيل من الأديان في ذاتها، وما تقوم عليه من قيم ومبادئ، وليس فقط التركيز على الممارسات السلبية لأتباع هذه الديانات أو تلك المعتقدات، وهو أمر من شأنه أن يفتح المجال لأزماتٍ مستقبليةٍ ذات طبيعة دينية، تقوم على التشويه المتبادل والاستهداف المتعمد من الأديان والمذاهب المختلفة.
ثالثها، ظهور تناقضات واختلالات عديدة في الخطاب الديني لجماعات وتيارات وشخصيات دينية عديدة، في تعاطيها مع الأزمة، تفسيراً أو مواجهة، وهذا مردّه تغليب الاعتبارات السياسية والنظرة الجزئية الضيقة، على حساب أسس التحليل العلمي الموضوعي في التعامل مع الظواهر المختلفة، الطبيعية أو البشرية، الدينية منها أو السياسية.
رابعها، كشفت الأزمة عن تناقضات كثيرة من حكومات عربية عديدة، فيما يتعلق بالموقف من الشعائر والممارسات الدينية التي تم التضييق عليها، بدعوى الحدّ من انتشار الوباء، والسماح باستمرار فعاليات جماهيرية واحتفالية أخرى، بل واستمرار العمل في قطاعات تشهد كثافة جماهيرية أكبر من التي تشهدها بعض الشعائر الدينية.
خامسها، لكل أزمة متاجرون بها، في مختلف التيارات والاتجاهات، وعلى مختلف المستويات. وفي إطار البعد الديني، برز هؤلاء ممثلين في شيوخ من أصحاب الفتاوى التي تذهب يميناً ويساراً وفق أهواء الحكام، وكذلك قساوسة وحاخامات، استخدموا الشعارات الدينية وسيلة لزيادة الأتباع، وإثارة المشاعر والعواطف، على الرغم مما قد يترتب على ذلك من تداعيات سلبية من حيث انتشار الوباء وانتقال العدوى.
سادسها، البعد الديني، بغض النظر عن سلبيات الخطاب، والتحفظات على بعض السياسات، يبقى بعداً شديد الأهمية في إطار دراسة الظواهر الاجتماعية وتحليلها، وخصوصا لما يمثله الدين من هوية ومرجعية حاكمة للمليارات من البشر عبر العالم، وحاكم ومحدّد لسلوكهم الاجتماعي والسياسي، وما هو ما يتطلب مزيداً من الأبحاث والدراسات بشأن الأطر المنهجية للظواهر الدينية، وتأثيراتها وامتداداتها وسياقات توظيفها في القضايا المختلفة، خصوصا في أوقات الكوارث والأزمات التي يشهدها العالم المعاصر.
A57B9A07-71B2-477E-9F21-8A109AA3A73D
عصام عبد الشافي

باحث وأكاديمي مصري، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، يعمل أستاذاً للعلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة رشد التركية، من مؤلفاته: البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية (2013)، السياسة الأمريكية والثورة المصرية (2014).