02 ابريل 2021
البحث عن العقل العربي
البحث عن العقل العربي
إذا كانت الأمم، شرقاً وغرباً، تظلّ تتطلّع إلى كيفية صوغ حضورها المتجدّد في هذا العالم، بالاستناد إلى مواقعها ومصالحها واستراتيجياتها، فإننا، نحن العرب، لا نملك، حتى القدرة على متابعة مشهد انهيارنا المريع، خصوصاً على مدى السنوات الخمس الفائتة التي شهدت انطلاقة وانفجار ما اصطلح على تسميتها "ثورات الربيع العربي". فما يجري في الجغرافيا العربية المتوترة اليوم، والخارطة السياسية العربية الأكثر توتراً وتمزقاً، يكاد يحطّم آخر دفاعاتنا العقلية، ويرمينا كل يوم في انصعاقٍ، وفقدان اتجاه، وتجديد عجز وبؤس.
ومع أن كثرة كاثرة من مفكّرينا ومثقفينا أشّرت وتؤشّر إلى الكوارث منذ سنوات طويلة، وحذّرت وتحذّر من الأفدح منها حتى اللحظة، فإن سبيل الانهيارات، بل الجائحات العربية مستمر، وتكاد العين لا تقوى على رصده لفرط تسارع وتائره.
وإنه لمثير فعلاً ألّا نتعلم، نحن العرب، ولو من تجربة هزيمةٍ واحدةٍ أنهكتنا، وبعثرت مجتمعاتنا وأوطاننا شر بعثرة، بل على العكس، نجد أن أغلب خطاباتنا السياسية يعاود أصحابُها الثرثرة إياها، وباللغة الميتة إياها منذ عقود طويلة، ولا يقوم هؤلاء، حتى ولو بتعديلٍ طفيفٍ على غرورهم الحلزوني المفرط والمؤسَّس بشراسة على الخواء.. وصيانة هذا الخواء أيضاً.
فكرنا السياسي، فكرنا "الاستراتيجي" في معظمه إذاً، فكر مسبّق وبأحكام مسبّقة ذات رطانة منفّرة وغير مسؤولة، وأخشى ما نخشاه أن يأتي يوم، وقد أتى بالفعل، تستحيل فيه مجتمعاتنا برمتها مجتمعات مقفرة، خاوية من أي إحساس بالمسؤولية السياسية والاجتماعية والقومية والتاريخية المصيرية.
من جهة أخرى، وعلى المستوى العالمي، انهار، كما نلحظ أيضاً، النظام الأخلاقي العتيد للسياسة الدولية العتيدة، أو على الأصح، بات في يد قلّةٍ تعبث، وعلى هواها، بمقدّرات الإنسانية وإنجازاتها المؤسّسية.. ولا أحد يجرؤ على تنبيهها من مخاطر أساليبها هذه، حتى على مصالحها الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية نفسها.
وربما لأجل ذلك، بدأنا نشهد، في الغرب، حركات احتجاج فكرية جديدة، هدفها تكريس "أخلاقية عقلانية دولية"، من شأنها معاينة وتفكيك الغموض الهائل الذي يلفّ أحداثاً وتطورات سياسية جارية كثيرة، على مستوى القارات، وهي أخلاقية أقرب إلى فن تقييم الأوضاع منها إلى الحكم على هذه الأوضاع. ويجسّد ما نذهب إليه، كتاب صدر في فرنسا قبل أعوام "الخير والحرب والإرهاب.. في سبيل خُلُقية دولية"، للفرنسية مونيك سبيربير، تنفي فيه أن تكون هناك "ديمقراطية عالمية"، فالديمقراطية برأيها وهْم ناجم عن سذاجة الناس الذين يصدّقون الأشياء، لمجرد أنها مُثُل عليا، تماماً مثل ما هو وهم "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"؛ بالضبط، لأن عالميته وكونيته لا يتشاطرهما الناس جميعاً، ولا تتماشيان مع قناعات ثقافاتٍ وأدبيات سياسية كثيرة في العالم. كما تدعو المؤلفة إلى إعادة النظر في نهج العمل السياسي الاستراتيجي الغربي، خصوصاً المعارض منه، والذي تحوّل في رأيها "إلى مجرد فلكلور لتبرير الانحرافات السياسية الكبرى للنظام الرسمي الغربي برمته". وترى أنه آن الأوان للنظر في بنية إدارة المخاطر اليومية والاستراتيجية التي تعصف بالعالم، من موقع جدّي ومسؤول، يُعيد إلى المبادئ والتشريعات السياسية الدولية فعاليتها على الأرض، من خلال ترجمة مضامينها، والالتزام العملي بهذه المضامين، من طرف سائر القوى المركزية المؤثرة في العالم.
وكم تذكّرني هنا الكاتبة الفرنسية بأطروحات المفكر السويسري، جان زيغلر، التي يدعو فيها إلى تنويرٍ جديد في الغرب، بعدما انحرف هذا الغرب (في رأيه) عن التنوير السابق، أي عن مبادئ روسو وكانط وكبار ممثلي النزعة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. يدعو زيغلر، في حقيقة الأمر، إلى ثورة فرنسية جديدة. ولكن، بحجم العالم هذه المرة، وليس بحجم فرنسا، بغية إسقاط كل السياسات الاستبدادية التي تتحكّم بمسارات عالم اليوم، خصوصا منها تلك التي تتظلل، على الدوام، بلازمة الحفاظ على المصالح، ومواجهة الإرهاب المعولم، فالتنويري هو بالتأكيد ضد ثقافة "النوعية الفظة" التي تظل تفرض سطوتها على ما عداها.. والتنويري أيضاً هو مواطن العالم، وكل ما هو إنساني وثقافي وأخلاقي باقٍ ومفيد في التجربة العالمية.
وبالعودة إلى مونيك سبيربير وكتابها: "الخير والحرب والإرهاب.. في سبيل خُلُقية دولية"، نتساءل: إلام تستند هذه الكاتبة في "أخلاقيتها الدولية" التي تدعو إليها؟ وما الذي ترمي إليه في الزمن "اللاأخلاقي" العالمي هذا؟. الحقيقة أن سبيربير متفائلة، ولا تريد، بالتالي، النقد السياسي لمجرد النقد والتحطيم. ولذلك، فهي تستند، بحسب أقوالها، إلى "قيم جوهرية"، كالحرية والمساواة والعدالة وكرامة الإنسان القائمة في كل ثقافة، والمتصلة بخصائص نفسانية عامة. تقول "الفوارق الثقافية ليست سوى اختلافات في التعبير. وأي تشاور جدي حقيقي يمكن أن يؤدي إلى عقلانية في التصرف السياسي الدولي".
هكذا، تسعى الفيلسوفة الفرنسية إلى اختطاط نهج سياسي مناقبي وسطي ثالث، بين خُلُقية الحكم (خلقية الفلاسفة الأخلاقيين) وحُلُقية التقييم التي يعتمدها السياسيون. وهذا التوسّط، في حقيقته، عمل في منتهى الدقة. عليه، مثلاً، ألّا يكون قصير النظر، كي يتمكن من الإبصار. كما عليه ألّا يكون طويل النظر (وطول النظر مرض يصيب البصر) كي يتمتع ببعد النظر.
إذاً، تتنقّل كاتبتنا بين النظر عن بعد إلى الاعتبارات الأخلاقية المبدئية والتدقيق عن كثب في التقييمات المناقبية المفترضة للسياسة؛ فهل تفلح في إقناع الأخلاقيين والسياسيين بصوابية هذا المسعى؟ ما أصعب الدفاع عن المبادئ وحماية المصالح في آن: فهاتان المساحتان لا يمكن السير على الحدّ الفاصل بينهما، لأنه كحدّ السكين. ونحن، عرباً، سنظل في قلب كل التحوّلات السيو/ استراتيجية والجيو/ استراتيجية في العالم من حولنا، لا لشيء إلا لأننا مسرح هذه التحوّلات أكثر من غيرنا، ولأن هذا المسرح العربي تكسّر، وما تعب اللاعبون.
حاصل ما يراد هنا التوكيد عليه الآن أن إنساننا العربي هو ضحية كبرى لعصف إقليمي ودولي مفتوح على أهوال ومفاجآت، أقل ما يقال فيها، إنها حاسمة الخطورة على وجوده ومصيره، ذاتاً وهويةً وأرضاً وتاريخاً وحضارةً راسخة، يُراد لها أن تستأصل من جذورها. إننا فعلاً بإزاء سياساتٍ تستهدف فصل الإنسان العربي عن وجوده ومعناه، وذلك بعد ضرب وتعطيل جهاز المفهمة لديه، وتحويله إلى مجرد كتلةٍ بهماء محمولة على الضياع والتهلكة والموت. وقد يمضي المرء أبعد من ذلك ليقول إننا بتنا، في هذه المرحلة، لا نروم إلّا الكفّ عن مصادرة العقل العربي وإتلافه وتفريغه من حمولته التاريخية والذاتية.
عقلنا العربي.. هل بات فعلاً عاجزاً عن العثور على عقله؟
ومع أن كثرة كاثرة من مفكّرينا ومثقفينا أشّرت وتؤشّر إلى الكوارث منذ سنوات طويلة، وحذّرت وتحذّر من الأفدح منها حتى اللحظة، فإن سبيل الانهيارات، بل الجائحات العربية مستمر، وتكاد العين لا تقوى على رصده لفرط تسارع وتائره.
وإنه لمثير فعلاً ألّا نتعلم، نحن العرب، ولو من تجربة هزيمةٍ واحدةٍ أنهكتنا، وبعثرت مجتمعاتنا وأوطاننا شر بعثرة، بل على العكس، نجد أن أغلب خطاباتنا السياسية يعاود أصحابُها الثرثرة إياها، وباللغة الميتة إياها منذ عقود طويلة، ولا يقوم هؤلاء، حتى ولو بتعديلٍ طفيفٍ على غرورهم الحلزوني المفرط والمؤسَّس بشراسة على الخواء.. وصيانة هذا الخواء أيضاً.
فكرنا السياسي، فكرنا "الاستراتيجي" في معظمه إذاً، فكر مسبّق وبأحكام مسبّقة ذات رطانة منفّرة وغير مسؤولة، وأخشى ما نخشاه أن يأتي يوم، وقد أتى بالفعل، تستحيل فيه مجتمعاتنا برمتها مجتمعات مقفرة، خاوية من أي إحساس بالمسؤولية السياسية والاجتماعية والقومية والتاريخية المصيرية.
من جهة أخرى، وعلى المستوى العالمي، انهار، كما نلحظ أيضاً، النظام الأخلاقي العتيد للسياسة الدولية العتيدة، أو على الأصح، بات في يد قلّةٍ تعبث، وعلى هواها، بمقدّرات الإنسانية وإنجازاتها المؤسّسية.. ولا أحد يجرؤ على تنبيهها من مخاطر أساليبها هذه، حتى على مصالحها الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية نفسها.
وربما لأجل ذلك، بدأنا نشهد، في الغرب، حركات احتجاج فكرية جديدة، هدفها تكريس "أخلاقية عقلانية دولية"، من شأنها معاينة وتفكيك الغموض الهائل الذي يلفّ أحداثاً وتطورات سياسية جارية كثيرة، على مستوى القارات، وهي أخلاقية أقرب إلى فن تقييم الأوضاع منها إلى الحكم على هذه الأوضاع. ويجسّد ما نذهب إليه، كتاب صدر في فرنسا قبل أعوام "الخير والحرب والإرهاب.. في سبيل خُلُقية دولية"، للفرنسية مونيك سبيربير، تنفي فيه أن تكون هناك "ديمقراطية عالمية"، فالديمقراطية برأيها وهْم ناجم عن سذاجة الناس الذين يصدّقون الأشياء، لمجرد أنها مُثُل عليا، تماماً مثل ما هو وهم "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"؛ بالضبط، لأن عالميته وكونيته لا يتشاطرهما الناس جميعاً، ولا تتماشيان مع قناعات ثقافاتٍ وأدبيات سياسية كثيرة في العالم. كما تدعو المؤلفة إلى إعادة النظر في نهج العمل السياسي الاستراتيجي الغربي، خصوصاً المعارض منه، والذي تحوّل في رأيها "إلى مجرد فلكلور لتبرير الانحرافات السياسية الكبرى للنظام الرسمي الغربي برمته". وترى أنه آن الأوان للنظر في بنية إدارة المخاطر اليومية والاستراتيجية التي تعصف بالعالم، من موقع جدّي ومسؤول، يُعيد إلى المبادئ والتشريعات السياسية الدولية فعاليتها على الأرض، من خلال ترجمة مضامينها، والالتزام العملي بهذه المضامين، من طرف سائر القوى المركزية المؤثرة في العالم.
وكم تذكّرني هنا الكاتبة الفرنسية بأطروحات المفكر السويسري، جان زيغلر، التي يدعو فيها إلى تنويرٍ جديد في الغرب، بعدما انحرف هذا الغرب (في رأيه) عن التنوير السابق، أي عن مبادئ روسو وكانط وكبار ممثلي النزعة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. يدعو زيغلر، في حقيقة الأمر، إلى ثورة فرنسية جديدة. ولكن، بحجم العالم هذه المرة، وليس بحجم فرنسا، بغية إسقاط كل السياسات الاستبدادية التي تتحكّم بمسارات عالم اليوم، خصوصا منها تلك التي تتظلل، على الدوام، بلازمة الحفاظ على المصالح، ومواجهة الإرهاب المعولم، فالتنويري هو بالتأكيد ضد ثقافة "النوعية الفظة" التي تظل تفرض سطوتها على ما عداها.. والتنويري أيضاً هو مواطن العالم، وكل ما هو إنساني وثقافي وأخلاقي باقٍ ومفيد في التجربة العالمية.
وبالعودة إلى مونيك سبيربير وكتابها: "الخير والحرب والإرهاب.. في سبيل خُلُقية دولية"، نتساءل: إلام تستند هذه الكاتبة في "أخلاقيتها الدولية" التي تدعو إليها؟ وما الذي ترمي إليه في الزمن "اللاأخلاقي" العالمي هذا؟. الحقيقة أن سبيربير متفائلة، ولا تريد، بالتالي، النقد السياسي لمجرد النقد والتحطيم. ولذلك، فهي تستند، بحسب أقوالها، إلى "قيم جوهرية"، كالحرية والمساواة والعدالة وكرامة الإنسان القائمة في كل ثقافة، والمتصلة بخصائص نفسانية عامة. تقول "الفوارق الثقافية ليست سوى اختلافات في التعبير. وأي تشاور جدي حقيقي يمكن أن يؤدي إلى عقلانية في التصرف السياسي الدولي".
هكذا، تسعى الفيلسوفة الفرنسية إلى اختطاط نهج سياسي مناقبي وسطي ثالث، بين خُلُقية الحكم (خلقية الفلاسفة الأخلاقيين) وحُلُقية التقييم التي يعتمدها السياسيون. وهذا التوسّط، في حقيقته، عمل في منتهى الدقة. عليه، مثلاً، ألّا يكون قصير النظر، كي يتمكن من الإبصار. كما عليه ألّا يكون طويل النظر (وطول النظر مرض يصيب البصر) كي يتمتع ببعد النظر.
إذاً، تتنقّل كاتبتنا بين النظر عن بعد إلى الاعتبارات الأخلاقية المبدئية والتدقيق عن كثب في التقييمات المناقبية المفترضة للسياسة؛ فهل تفلح في إقناع الأخلاقيين والسياسيين بصوابية هذا المسعى؟ ما أصعب الدفاع عن المبادئ وحماية المصالح في آن: فهاتان المساحتان لا يمكن السير على الحدّ الفاصل بينهما، لأنه كحدّ السكين. ونحن، عرباً، سنظل في قلب كل التحوّلات السيو/ استراتيجية والجيو/ استراتيجية في العالم من حولنا، لا لشيء إلا لأننا مسرح هذه التحوّلات أكثر من غيرنا، ولأن هذا المسرح العربي تكسّر، وما تعب اللاعبون.
حاصل ما يراد هنا التوكيد عليه الآن أن إنساننا العربي هو ضحية كبرى لعصف إقليمي ودولي مفتوح على أهوال ومفاجآت، أقل ما يقال فيها، إنها حاسمة الخطورة على وجوده ومصيره، ذاتاً وهويةً وأرضاً وتاريخاً وحضارةً راسخة، يُراد لها أن تستأصل من جذورها. إننا فعلاً بإزاء سياساتٍ تستهدف فصل الإنسان العربي عن وجوده ومعناه، وذلك بعد ضرب وتعطيل جهاز المفهمة لديه، وتحويله إلى مجرد كتلةٍ بهماء محمولة على الضياع والتهلكة والموت. وقد يمضي المرء أبعد من ذلك ليقول إننا بتنا، في هذه المرحلة، لا نروم إلّا الكفّ عن مصادرة العقل العربي وإتلافه وتفريغه من حمولته التاريخية والذاتية.
عقلنا العربي.. هل بات فعلاً عاجزاً عن العثور على عقله؟