البحث عن "سايكس – بيكو"

البحث عن "سايكس – بيكو"

08 سبتمبر 2014

جنود فرنسيون في ميناء بيروت بعد "سايكس-بيكو" 1920 (Getty)

+ الخط -

كان مزحةً في محلها قول رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، إنه يترحّم على "سايكس – بيكو"، بعد أن "صار في كل وطن من أوطاننا العربية بذور فتنة". أما النائب وليد جنبلاط، فربما غالى في مزحته، أنه يبحث عن ضريحي مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو، ليضع عليهما باقتي زهور. ومعلومٌ أن الأول بريطاني كان عضواً في مجلس العموم، والآخر دبلوماسي فرنسي، وتفاوضا سراً على توزيع بقايا من تركة الحكم العثماني في المشرق العربي على بلديهما، وصادقت الإمبراطورية الروسية على اتفاقهما الشهير في 1916، وأكد عليه مؤتمر شهير في سان ريمو في 1920. ومبعث مزحتي جنبلاط وبري ما يتعرّض له المشرق العربي من انكشافٍ مريع أمام نوازع مذهبية وطائفية وتقسيمية في المنطقة، لم تعد تهويماتٍ وأفكاراً مرذولة هنا وهناك، بل صارت لها قوى مسلحة مسنودة، تمكّن بعضها من السيطرة على مساحات جغرافية شاسعة. وليس ثمة مفارقة في أن يجهر قطبان سياسيان، في لبنان دون غيره، بودٍّ ساخر تجاه ذينك الثعلبين، البريطاني والفرنسي، فالكيان اللبناني ساحةٌ متاحة، (وميسورةٌ؟)، للعب الطائفي والتقسيمي والمذهبي المقيت. ومن إحالاتٍ موحية، أن برّي قال ما قاله في الكويت، البلد الذي تهدّد في الجغرافيا العربية، ذات صيف غير منسي.
وللحق، فإن الذي يقترفه تنظيم داعش، الإرهابي كما يحسن نعته دائماً، يجعلك تتخفّف، ولو مؤقتاً، من أي مشاعر قومية المنحى، إن كانت مقيمةً فيك، فتندفع إلى وجوب حماية الكيانات العربية القائمة، وهو أمرٌ يغشاك، وأنت تشهد الذي يرتكبه نظام دمشق، حين لا يخجل من ثباتِه على رطانته إياها، عن وحدةٍ عربيةٍ ينشدها، فيما نجح بجدارة في إشاعة روحٍ تباعدُ بين السوريين أنفسهم، مشاعر وهموماً ومشاغل وهواجس، في غير منطقةٍ ومحافظة. ويفاجئنا نحن، غير السوريين، إلى حدٍّ مهول، هذا الذي صرنا نعرف ونشاهد، من شقاقٍ بين كثيرين منهم، لا مسؤولية لأحدٍ عنه سوى على النظام المذكور، في خياراته وسياساته الأمنية والتمييزية إياها. أما عن العراق، فلا حاجة إلى التأشير إلى القاع الذي هوى فيه، وكان هذا الوطن رهاناً حقيقياً للأمة العربية، وكانت كفاءاته وأدمغة نخبه ومتعلميه تجعلهم يستحقّون وصفهم المنسي "ألمان العرب". وفي البال أن العراق كان، في مطلع السبعينيات، مرشحاً في مؤشرات التنمية والتقدم لأن يتجاوز عالمثالثيته، والآن في زمن ورثَة صدام حسين، "داعش" ونوري المالكي والأحزاب والتكتلات الطائفية، شيعية وسنية، يعود إلى "طوطميةٍ" بالغة الرداءة، لا غلوَّ في الزعم، هنا، أنها أكثر بؤساً من العصر الحجري الذي هدّدت به إدارة بوش (الأب) العراق، على لسان جيمس بيكر في جلسته العتيدة مع طارق عزيز في جنيف، عشية حرب 1991.
التبس وضع مدينة الموصل في تفاهم فرانسوا بيكو ومارك سايكس، كانت من حصة الفرنسيين فيه، غير أن رئيس وزراء بريطانيا في حينه (1917)، لويد جورج، طلبها مع نظيره (وصديقه) الفرنسي، جورج كليمنصو، فوافق، فآلت إلى الإنجليز. وبعد نحو مائة عام، تجعلها "داعش" منصة أولى لإعلان "الدولة الإسلامية"، فبدأت الدولة المزعومة هذه جرائمها تجاه المسيحيين، الأهل الأُوَل للمدينة. ومن عجائب هذه الحال، أن هذه العصابة لا يقوى عليها جيشٌ في سورية، ولا جيشٌ في العراق، والأول طالما صُرفت عليه، وعلى تسليحه، مليارات الدولارات من أجل توازنٍ استراتيجي مع إسرائيل (هل من يتذكر؟). والثاني، تولت الولايات المتحدة تأهيله وتسليحه، بل وترشيقه بعد حله. ولأن "الدولة الإسلامية" ذات شكيمة وشأن، في الموصل والرقة وحلب مثلاً، فإن تحالفاً دولياً يقوم، لهزيمتها، وليعيد اعتباراً للسيدين، مارك سايكس وجورج بيكو، وقد ترحّم عليهما نبيه بري، ويفتش عن ضريحيهما وليد جنبلاط.


  

دلالات

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".