الانتماء وعدمه

الانتماء وعدمه

29 يوليو 2018
+ الخط -
كنت في مكان ما أنا وصديق قريب لي نتردد عليه بين مدة وأخرى، وفي هذه المرة كنت أشرد كثيراً في تفكيري، وكانت تسيطر علي فكرة واحدة: ما مدى انتمائي لهذا المكان؟

وأنا أحاول أن أجد الجواب ظهرت أمامي مشكلة المحددات التي على أساسها أقرر انتمائي، أو انتماء أي أحد إلى أي مكان، من عدمه. نعم! أخذت المشكلة في رأسي نطاقاً بعيداً، نوعا ما، عن الذاتية، وفكرت بالانتماء للمكان وعدمه بشكل عام. وعند هذه النقطة شعرت بأن مشكلتي أصبحت مثل أخطبوط متعدد الأطراف! إذ كلما اتسع نطاق المشكلة اتسع عندها نطاق الاحتمالات والحالات التي عليك مراعاتها.

حاولت إيجاد محددات عامة فقلت إن الانتماء وعدمه يتحددان بنوع التفاعل الذي نخلقه مع المكان، المحيط الذي يغلفنا. فرأيت الانتماء يظهر من خلال التفاعل الإيجابي مع المكان، التفاعل المنتج، العمل والمشاركة، مع مصاحبة هذا لشعور الرضا عنه. أي أن العمل والمشاركة يكونان مصحوبين برضا الشخص عنهما. أما غياب هذا الرضا الداخلي، وبدلاً منه يكون هناك مجرد القبول السلبي الناتج عن عدم القدرة على تغيير المكان والخروج عليه، فعندها يصبح عندنا شعور أكيد بالانتماء.


عند هذه النقطة شعرت بأني أتحرك فوق السطح، وفكرت بأني حددت الانتماء وعدمه بمحددات عائمة نوعا ما: فكم شخص يشعر بالرضا في العمل الذي يعمله وبالمكان الذي يعيش فيه؟

وهكذا وضعت معظم الناس في خانة اللا منتمين! بحثت عن النقطة التي اخطأت في إصابتها، الإصرار هذا كان سببه شعوري العميق أنا نفسي بعدم الانتماء! وهنا خطر في ذهني أن الانتماء وعدمه لهما عدة أنواع، ربما أولها، وأهونها كذلك، النوع الذي ذكرناه فوق، أو بعبارة أدق يتحركان على عدة مستويات.

هناك مثلاً الانتماء واللا انتماء السياسيان، والمجتمعيان: الدين والثقافة، وهناك الانتماء وعدمه الاقتصاديان: الشعور بعدم الانتماء الطبقي، وهذا النوع له ارتباط كذلك مع النوع الثقافي المذكور سابقاً، وإن كان ارتباطاً مشوشا لن أخوض فيه هنا.

والأهم من كل هذا هو الانتماء وعدمه الفكريان، وهو النوع الذي يهمني هنا. لهذا النوع الأخير، عدم الانتماء الفكري، خصوصية مهمة جداً، وذلك أنه ذاتي إلى أبعد الحدود، وذو دائرة واسعة وضيقة في الوقت نفسه.

فمثلا لو أخذنا عدم الانتماء الطبقي فإنك لست وحدك تتحمل عبء هذا الشعور، ذلك أن كل عائلتك تشاركك، وربما جارك وأناس آخرون من حولك، وهو بعد كل شيء إحساس مجتمعي عام، لا شخصي. وهكذا بقية الأنواع.

أما عدم الانتماء الفكري فقد تشعر به وأنت بين أهلك، بل ربما أقوى شعورك فيه وأنت بينهم! أنت تفهمهم وتقدر أفكارهم مهما شعرت بأنها ساذجة وبسيطة، وأنهم لم يبذلوا أي جهد فيها بل جاءتهم هبة عن الأجداد! وبالمقابل هم لا يفهمونك، وهذا مفهوم، لكنهم لا يقدرون ما تبذله من جهد في سبيل التفكير، والأدهى، أن يقفوا جدراناً في سبيل أشعة عقلك المنطلقة!

وأنا أعتقد أنه عند هذه النقطة يبلغ عدم الانتماء ذروة قسوته: ذلك أن التفكير هو ميزة الإنسان ومنع الإنسان من ممارسة حقه في التفكير هو منعه من أن يكون إنساناً! وتظهر قسوته كذلك في ضيق المساحة -المكانية- التي يعطيها لك، في حال بلغ عدم الانتماء حدود العائلة، وهذا "الضيق المكاني" له تأثير ضاغط على العقل، وربما هناك من يستسلم بسبب صعوبة الوضع.

قلت إن هذا النوع من الانتماء يتميز بأنه ذو دائرة فعل واسعة وضيقة في الوقت ذاته، وقد تكلمت عن الأخيرة، أما الأولى فإنها قد تتوسع فتشمل القرية والمدينة والوطن، وربما، وهنا ندخل في نوع آخر من عدم الانتماء! العالم كله! وهذا النوع الأخير يمكن أن أسميه "عدم الانتماء الوجودي" ولا أدري حقيقة ما مدى دقة التعبير! وهذا النوع بلا شك هو أبشع أنواع اللا انتماء، وأجمل أنواع الانتماء، إن وجد! وهذا هو الذي يخلق العظماء، والتعساء كذلك. وربما كان الأنبياء لامنتمين وجودياً! ذلك أن الأنبياء يسعون لخلق "عالم جديد".

دلالات

09AFC7C7-AA33-41CB-83DB-F34125594AA0
حسين جبار

مواليد بغداد، مهندس حاسبات وبرمجيات. كاتب وشاعر مهتم بالفلسفة والتأريخ ودراسات الأديان والعلوم الإنسانية. نُشرت لي مقالات وقصص وأشعار باسم حسين جبار وحسين المسلم. يقول: أنا لست شاعرا ولا عاشقا ولست حتى عابرا، أنا لست إلا شاهدا في جسد العالم المريض، أمشي حاملا مدونتي، أسابق آفة الزمن، أسبق مرة حاضري ويسبقني مرة الماضي، أنا في الحكاية سطر هامشي لكنه يحمل المعنى الخفي.

مدونات أخرى