الانتحار في إخفاقات الربيع العربي

الانتحار في إخفاقات الربيع العربي

10 فبراير 2019
+ الخط -
تداولت مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أيام، مقطع فيديو لشاب مصري، يرتاد إحدى محطات مترو الأنفاق في القاهرة، ويلقي بنفسه تحت عجلات قطارٍ يعبر فوق إحدى السكك. كان الفيديو صادما، إلى درجة أنك تندم على امتلاكك جرأة المضي في مشاهدته حتى النهاية.
دفعني ذلك إلى البحث عن حالات مشابهة، ليتبيّن أنها ليست الحادثة الأولى من نوعها انتحارا في محطات المترو. ففي يونيو/ حزيران من العام 2011 وقعت حادثة انتحار في محطة مترو كوبري القبة، وشهد العام 2015 على الأقل حادثتين في شهري يناير/ كانون الثاني ومايو/ أيار، كما وقعت في العام 2016 خمس حوادث، اثنتان منها في شهر يناير/ كانون الثاني، تبعتها ثلاث حوادث في مارس/ آذار وإبريل/ نيسان ونوفمبر/ تشرين الثاني. وُثّقتْ حادثة انتحار في مارس/ آذار من العام 2017، أما في العام 2018، وبالإضافة إلى حادثةٍ وقعت في شهر مارس/ آذار، شهد شهر يوليو/ تموز وحده ثلاث حوادث.
قد تصنع وسائل التواصل الاجتماعي تراكماتٍ في الخلفية الذهنية للمقبلين على الانتحار، توحي لهم باستخدام طرقٍ معينة، ولكن لا يمكن عدّها، في حد ذاتها، محرّضا على فعل الانتحار، إذ لم تقتصر محاولات الانتحار على مترو الأنفاق، بل أضحت أمواجها المختلفة؛ شنقا، وغرقا، وسقوطا من عل، وغيرها، تضرب الشواطئ الاجتماعية العربية غير الآمنة، والتي لم يعد يكفي معها التفسير الشعبي التقليدي الذي يردّها إلى ضعف الوازع الديني، ولا مجرّد اللجوء إلى علم النفس، لربط السلوك الانتحاري باضطرابات المزاج، أو الفصام، أو الشخصية. وقد بيّنت دراسةٌ أن أسباب الانتحار في بلد عربي، مثل الجزائر، يعود 35% منها فقط إلى الاضطرابات النفسية والعقلية.
ومع انطلاق "الربيع العربي"، يبدو أن السلوك الانتحاري لم يعد وسيلةً للتعبير عن اليأس وفقدان الأمل بسبب أزمة عاطفية، أو مشكلاتٍ عائلية، أو إخفاق دراسي، أو غيرها من الدوافع الشخصية، بل أيضا، أداةً للاحتجاج، ورفض الواقع الاجتماعي، بمختلف أبعاده الاقتصادية والسياسية وغيرها.
تبيّن الإحصاءات المختلفة، في حدود ما اطلع عليه صاحب هذه السطور، ارتفاع معدلات 
الانتحار في العالم العربي في السنوات الأخيرة. صحيحٌ أن بلدانا، وفق تلك الإحصاءات، ما زالت تتقدم الدول العربية في عدد حالات الانتحار، ومنها دول متفوّقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، إلا أن فارقا كمن في أن أعداد المنتحرين تناسبت طردا مع التقدّم في العمر في تلك البلدان، بينما ارتفعت نسب الانتحار في الحالة العربية بين الشبّان والمراهقين، وشملت حتى الأطفال (هؤلاء لم يمارسوا بالضرورة ألعابا خطرة نحو "الحوت الأزرق" أو "مومو"). قد لا تكمن المشكلة في الأرقام، بقدر ما تكمن في الدوافع وراء الانتحار.
.. علمت، في سن السابعة، أن أحد الشبان ممن يقطنون في حينا قضى منتحرا متجرّعا سُمّ فئران، نتيجة إحباطٍ شديدٍ نَجُمَ عن فشل دراسي، بعد أن أقحم نفسه، بضغطٍ من والده، في منافسةٍ غير متكافئة مع أحد طلاب صفه في امتحانات الشهادة الثانوية. كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها تعبير: "مات منتحرا"، قبل أن تعتاد الذاكرة لاحقا على تعابير مشابهة ومرادفة، فها هي ت. س (كما رمزت لاسمها صفحة الحوادث في صحيفة محلية)، والتي كانت إحدى جاراتنا، انتحرت بعد علمها أن خطيبها تزوج وسافر إلى خارج البلد. أما ذلك العامل الفقير الذي انتحر، بسبب إضاعته ورقة يانصيب ربحت الجائزة الكبرى، فكان حديث الحي فترة طويلة. وفي مشهد شبه جماعي، ما زلت أذكر أولئك الفتيات يرمين بأنفسهن عن شرفات المنازل في جنازة عبد الحليم حافظ ( هل كان سقوط بعضهن نتيجة حالات إغماء مفاجئة؟).
كانت الثقافة التقليدية ترفض بشدة الانتحار، بوصفه كفرا وتمرّدا على الخالق الذي يملك حيوات الخلق، ويتصرّف بها وحده، بل كفرا بنعمة الحياة التي منحها الله لعباده، لكن منذ خمسينيات القرن الماضي، بدأت ذاكرتنا العربية تعتاد على حالات انتحار بدوافع سياسية، قومية ووطنية، ترافقت مع تصاعد المد التحرّري اليساري العالمي والعربي. جول جمّال، دلال المغربي، لولا عبّود، جمال ساطي، وفاء نور الدين، وسناء محيدلي، وغيرهم، لم تحرّكهم الدوافع الدينية التي برزت لاحقا مع حركات الإسلام السياسي، وأيديولوجياتها التي هيمنت على عمليات المقاومة في البلدان العربية على حساب اليسار الراديكالي، المتقهقر لأسباب متنوّعة، ذاتية وموضوعية، وأصبحت العمليات المسمّاة "استشهادية" وسيلةً لتعويض الخلل في ميزان القوى، وبدت غاية أيديولوجية في ذاتها.
مع الحركات الإسلامية السلفية الجهادية، دخلنا في حالةٍ من العنف الفوضوي الموجّه ضد الجميع، بعد أن منح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في ظل تداعي الدولة، الأولوية لقتال "العدو القريب"، بعد أن اهتمت "القاعدة"، التنظيم الأم، في "قتال العدو البعيد"، ليشمل مفهوم العدو كل من لا ينتمي للتنظيم، ويتّفق مع تنظيراته الأيديولوجية الشرعية. بحث بعضهم عن 
علاقةٍ بين تفشّي السلوك الانتحاري وبيئة العنف التي كرّستها ممارسات التنظيم. لكن التنظيم، كما يذهب عزمي بشارة (في كتابه "في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟")، لم يخترع العنف السادي الذي يصوّره، ويباهي به ليرعب أعداءه، بل تميّز بتحويله إلى طقسٍ ومشهدٍ استعراضي، فسبقته إليه الأنظمة الاستبدادية التي تفنّنت في استخدام العنف في معتقلاتها، وقامت باكرا بتصويره وعرضه، تخويفا للجماهير من عواقب الخروج في المظاهرات.
هل كان "الربيع العربي" نفسه سلوكا انتحاريا، ليس من زاوية شرارته الأولى التي قدح بها انتحار محمد البوعزيزي، بل نظرا إلى إخفاقاته التي أدّت إلى نتائج كارثية؟ هذا سؤالٌ مشروعٌ بقدر المشروعية الأخلاقية والتاريخية لهذا "الربيع" الذي لم ترافقه أسباب الانتحار التقليدية فقط، من تردّي الوضع الاقتصادي، والتربية الأسرية القاسية، وصدماتنا النفسية المتحالفة مع موروثٍ ثقافيٍّ يصوغ شخصيتنا التي تتمثل الثأر قيمة اجتماعية عليا، ويكرّس غياب الفكر النقدي بانتصار النقل على العقل، وجهاد الآخر على جهاد النفس، واستبداد السلطة والدين، على الديمقراطية والتسامح.
لم يعد السلوك الانتحاري، مع هذا الإخفاق، ينبع اليوم من ردود أفعالنا على إحباطاتنا الفردية والجمعية فقط، ولا من جروحنا النرجسية، نتيجة هزائمنا العسكرية والاجتماعية المتكرّرة وحسب، بل بات في ظل تفاقم التناقضات الاجتماعية الحادّة، نتيجة إخفاقات "الربيع العربي" التي لوثت المجتمع بمزيد من القلق حيال الهوية، يحوز أسبابه غير التقليدية: الإخفاق الفردي والجماعي، الرؤية المشوّشة، والأوضاع السياسية غير المستقرّة، والتضييق على الحريات، والظلم الاجتماعي، وتغييب العدالة والديمقراطية، والحروب الأهلية، وتدنّي قيمة الحياة الإنسانية، وغموض المستقبل، وانعدام الأمل والشعور بالأمن، وغياب الهدف والمعنى. تلك وغيرها أدّت إلى استسهال الانتحار مهربا في مواجهة أوّل عائق، وكأنه لم يعد أمامنا من خيارٍ ثالثٍ غير الاعتداء على الآخر، أو الاعتداء على الذات.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.