الاقتصاد والعلاقة الاستراتيجية العابرة للأطلسي

الاقتصاد والعلاقة الاستراتيجية العابرة للأطلسي

02 يونيو 2018
+ الخط -
يبدو أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عازم على نسف العلاقة التقليدية والاستراتيجية بين ضفتي الأطلسي. صحيح أن التحالف القيمي والاستراتيجي بين أوروبا وأميركا لم يعنِ يوماً غياب المنافسة الاقتصادية، والصراع من أجل ربح مناطق نفوذ اقتصادية وحصص في الأسواق العالمية، ولم تخلُ المنافسة من الجوسسة الاقتصادية بين الطرفين، حيث عملت الأجهزة الاستخباراتية الأميركية، بالتعاون مع الشركات الأميركية، على إجهاض صفقاتٍ كانت شركات أوروبية على وشك إبرامها، كما لم تتردّد أميركا في إلحاق الضرر بالشركات الأوروبية، من خلال فرض قوانينها خارج حدودها الجغرافية، من خلال العقوبات التي أقرتها وتقرها في حق بعض الدول، كما الحال مع إيران اليوم، إلا أن الطرفين أبقيا على شعرة معاوية اقتصادياً، وعلى الحد الأدنى من التضامن إستراتيجياً في حال الأزمات الحادة، فعلى الرغم من معارضتهما غزو العراق فتحت فرنسا وألمانيا مجالهما الجويين للمقاتلات الأميركية التي كانت تقصف العراق. ولم تتجاوز أميركا هذا الحد، أو السقف، في تعاملها مع حلفائها التقليديين.
لكن الأمور بدأت تتغير منذ مجيء ترامب إلى الحكم، فعلى صعيد التحالف الاستراتيجي، انتقد حلف شمال الأطلسي (الناتو) قوام الرابطة العابرة للأطلسي وعمادها، ورفض الإشارة في خطابه في قمة الحلف الأطلسي المنعقدة في بروكسل في يناير/ كانون الثاني 2018، إلى المادة الخامسة من ميثاق الحلف، والتي تخص الأمن الجماعي، أي التزام دول الحلف بمساعدة دولة عضو تتعرّض لاعتداء ونجدتها. وهذه أول مرة يتجنب فيها رئيس أميركي ذكر هذه المادة في خطابٍ له في قمة أطلسية. والتجنب هنا مقصود، ورسالة سياسية إلى دول الحلف الأوروبية، وحتى إلى "الناتو" نفسه.
وعلى صعيد إدارة الأزمات الدولية، انسحبت أميركا ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، 
واضعةً حلفاءها الأوروبيين في موقف سياسي حرج للغاية، فعملياً هم مخيرون بين أميركا وإيران، لكن يصعب على أوروبا أن تميل إلى هذه الأخيرة، على حساب حليفها التقليدي، لأن إيران مهملة الثقل تماماً في ميزان المصالح الأميركية - الأوروبية، حتى ولو اتخذت قرارات لها تبعات خطيرة أمنياً واقتصادياً، لأربعة أسباب على الأقل.
أولاً، العلاقة التحالفية الاستراتيجية بين ضفتي الأطلسي تبقى إلى حد الآن قوية، على الرغم من الظروف الصعبة التي عرفتها وتعرفها، وهي قديمة ومعقدة، يصعب تفكيكها بسهولة وبسرعة، خصوصاً أن السياق الدولي غير مواتٍ لذلك (تصلب عود القوة الروسية العائدة في أوروبا وخارجها وصعود القوة الاقتصادية الصينية).
ثانياً، التوافق بين الطرفين على ثلاثة ملفات بشأن إيران، بغض النظر عن خلافهما بشأن الاتفاق النووي، وهي: ضرورة منع إيران من حيازة السلاح النووي؛ ضرورة الحيلولة دون تطويرها قدرات بالستية، خصوصاً أنها طورت صاروخاً يصل مداه إلى 2000 كلم؛ ضرورة الحد من نفوذها السياسي إقليمياً، لا سيما في سورية ولبنان.
ثالثاً، ليس الاتحاد الأوربي فاعلاً واحداً منسجماً، بل هو نتاج توافق هشّ بين دوله الأعضاء التي تختلف في رؤاها، وحتى في خياراتها الإستراتيجية فيما يخص بعض المسائل. إذ يصعب على الاتحاد أن يتحدث بصوتٍ واحدٍ وعلى الدوام، لذا فعادة ما تتعرّض مواقفه لتصدعاتٍ بسبب الخلافات بين أعضائه.
رابعاً، حجم المصالح الاقتصادية بين الطرفين يجعل ثقل إيران مهملاً تماماً: بلغت قيمة المبادلات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة 641 مليار دولار في 2017، أي ما يعادل 16،9% من إجمالي التجارة الخارجية الأوروبية، فيما بلغت المبادلات التجارية الأوروبية - الصينية 537 مليار دولار في العام نفسه، أي ما يعادل 15،3% من إجمالي التجارة الخارجية الأوروبية. لكن هذه "المناعة" الإستراتيجية والاقتصادية التي تتمتع بها العلاقة العابرة للأطلسي بدأت تتعرّض للاختراق، وأضحت منكشفة، لأن الخلاف لم يعد بين أميركا وحلفائها من جهة وأطراف ثالثة، وإنما على العلاقة بينهما تحديداً. فقد أعلنت أميركا ترامب يوم الخميس أنها ستنفذ قرارها بفرض رسوم على الفولاذ والألمنيوم الأوروبيين، حيث أعلنت عدم تمديدها المهلة الاستثنائية التي منحتها لهذين المنتوجين القادمين من أوروبا (وكندا والمكسيك)، وفرضها رسوماً جمركية بنسبة 25% على المنتوج الأول، و10% على الثاني. ويأتي هذا القرار في وقت لم يتمكن فيه الطرفان من إجراء مفاوضات، خصوصاً أن الاتحاد الأوروبي كان قد اشترط الإعفاء الجمركي النهائي للمنتوجين، قبل خوض المفاوضات.
وفي رد فعل، أعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيتخذ إجراءاتٍ على سبيل المعاملة بالمثل في حق منتوجات أميركية، وأنه سيرفع القضية أمام آلية التحكيم التابعة لمنظمة التجارة العالمية، 
والمختصة في النظر في المنازعات التجارية بين الدول، والتي سبق لها وأن نظرت في خلافات عديدة بين الاتحاد الأوروبي وأميركا، لكن هذه المرة الأمر مختلف. ففي السابق، كان الطرفان يقرّان بشرعية هذه المنظمة الدولية وبدورها في تسوية النزاعات التجارية، وفي تحرير التجارة الدولية، لكن اليوم أميركا تتبنى موقفاً عدائياً حيالها، وقد ظهر الخلاف الأوروبي - الأميركي واضحاً بشأن دور هذه المنظمة في اجتماع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية عقد أخيراً، حيث دافع الأوروبيون عن منظمة التجارة العالمية، على عكس الأميركيين.
هل بدأ الشرخ الاقتصادي بين ضفتي الأطلسي؟ بينما تعتبر فيه سياسة الاتحاد الأوروبي تحرير التجارة الدولية أحد أهدافه الأساسية للاتحاد، ساعية إلى الإلغاء التدريجي لكل القيود على المبادلات التجارية الدولية، وعلى الاستثمارات الخارجية المباشرة، وإلى الحد من الرسوم الجمركية، تعمل أميركا على تفكيك المنظومة الاقتصادية العالمية تدريجياً، بتراجعها عن تحرير التجارة العالمية، وتبنيها الحمائية الاقتصادية. لكن أميركا (أول قوة اقتصادية في العالم) ودول الاتحاد الأوروبي (ثالث قوة اقتصادية) يتفقان على نقد المنافسة غير المشروعة القادمة من الصين (ثاني قوة اقتصادية)، ويطالبان بمزيد من المعاملة بالمثل في المبادلات التجارية (تمثل هذه القوى الثلاث وحدها نصف الاقتصاد العالمي). بيد أن نقطة التوافق هذه لا تكفي للحيلولة دون إجراءاتٍ حمائيةٍ، وإجراءات مضادة بين الحليفين الإستراتيجيين. وقد يدفع هذا الاتحاد الأوروبي إلى تجسيد بعض مساعيه، مثل مطالبة بعض دول الأعضاء بأن يلعب دوراً أكثر في مجال الاستثمارات الخارجية التي تستهدف القطاعات الإستراتيجية في دول الاتحاد الأوروبي.
فضلاً عن نتائجها السلبية على الاقتصاد الأميركي، قد تخدم حمائية ترامب أوروبا، في الوقت الذي هي في حيرة من أمرها، بشأن كيفية الرد العملي على انسحاب أميركا من الاتفاق النووي الإيراني. ذلك أن لكل دول الاتحاد الأوروبي مصالح اقتصادية، تدافع عنها ما يجعلها تتفق حولها في الوقت الذي تفرقها السياسة. لكن المشهد الأهم هو ربما رمي أميركا أوروبا في أحضان الصين وروسيا، ولو إلى حين، لأن هذه القوى الثلاث تدافع عن حرية التجارة الدولية. ولكن لا يمكن التعامل مع هذا المشهد الذي قد يبدو مرجحاً بعض الشيء، من دون الأخذ بعين بالمزاج المتقلب لترامب، وتبنيه أسلوب الحكم بمقتضى الهوى.. وهذا ما يزيد من درجة اللا يقين.