الاقتصاد سلاح العقوبات والمقاومة

الاقتصاد سلاح العقوبات والمقاومة

13 يونيو 2016
العقوبات الاقتصادية طالت المواد الغذائية (كريم محسن/ Getty)
+ الخط -
تفرض القوى الدولية المهيمنة في صراعها عقوبات اقتصادية، تهدف بها إلى كسر الدول وتركيعها، وإثارة الشعوب ضد النظم الحاكمة. وقد تزامنت العقوبات الاقتصادية مع الصراعات السياسية، التي تشكل أداة حرب يكون فيها الاقتصاد هو السلاح. لا تقتصر العقوبات الاقتصادية في إلحاق الهزيمة بالدول بشكل مباشر، لكنها وإن لم تلحق الهزيمة، فإنها تؤخر فرص النمو الاقتصادي، وتحقيق تقدم يرتبط بحركة التجارة والتصنيع، وفي بعض الأحيان تتأثر القطاعات الزراعية من الحصار المفروض.
يتضمن الحصار الاقتصادي إجراءات عديدة، منها منع انتقال البضائع والسلع من وإلى الدولة المحاصرة، وهي سياسة قديمة في العلاقات الدولية، بل هي إحدى الأدوات التي نشأت مع فكرة الحروب والاستيلاء على مقدرات الغير. قديماً كانت القبائل المتناحرة تمارس حصارها على قبائل أخرى بهدف ممارسة الإذعان، والسيطرة على مقدرات القبيلة خاصة وأن القبيلة تشكل منظومة تشبه الدولة، ولذا فإن صراعها مع القبائل الأخرى يصبح عنيفاً، ويتجاوز الحرب المباشرة إلى التركيع والتجويع. ومع الحروب الحديثة أصبح الحصار الاقتصادي عقوبة مؤثرة، فشهدت عصور الاحتلال والحرب العالمية الأولى والثانية العديد من حوادث الحصار الاقتصادي. فلا يمكن نسيان المعركة الأبرز في الصمود أمام الحصار، ألا وهي معركة "ستالينغراد"، حيث حاصر الألمان المدينة الصناعية المؤثرة اقتصادياً خلال الحرب العالمية الثانية، وقد استمر الحصار والقتال على حدود المدينة أكثر من شهرين، وشهدت "ستالينغراد" تعبئة شعبية ضخمة لمقاومة الحصار، كما لجأ سكان المدينة إلى تناول جميع الكائنات الحية لتجاوز خطر المجاعة، ونجح السكان في الحفاظ على المدينة صامدة أمام الحصار الألماني. ومن الأمثلة الشهيرة في الصراعات السياسية، التي استخدمت الحصار الاقتصادي كأداة حرب، حصار كوبا في عام 1962، وكذلك فرض عقوبات اقتصادية وحصار ضد إيران، وفرض حصار اقتصادي خانق على العراق خلف كوارث إنسانية، حيث منعت الولايات المتحدة خلال الحصار وصول حليب الأطفال وغيره من السلع الأساسية، رغم أن القواعد الدولية الموضوعة، تنص فقط على حصار استيراد أو تصدير السلاح، والمواد ذات الاستخدام المزدوج سلمياً وعسكرياً. ومن أمثلة الحصار أيضاً الحصار على ليبيا. واليوم يعيش سكان غزة حصاراً خانقاً حيث تغلق المعابر، وتفرض إسرائيل طوقاً أمنياً، وهو ما يخلف معاناة واسعة للمرضى والأطفال، كما يشل حركة تنقل الأفراد، بالإضافة إلى وضع قيود على حركة البضائع.
وإن كان الحصار يستخدم كسياسة عقابية، فإن الشعوب تستخدمه أيضاً، إذ إن المقاطعة الاقتصادية تشكل عقاباً وفعلاً مقاوماً في آن واحد. فقد استخدم الشعب المصري في كفاحه ضد الاحتلال البريطاني سلاح المقاطعة للبضائع الإنجليزية، وكذلك فعل الهنود، وقادوا مقاومة سلمية مقاطعين البضائع البريطانية، وظلت قوى المقاومة، والقوى التقدمية، تستخدم سلاح المقاطعة ضد البضائع الإسرائيلية والشركات التي تدعم إسرائيل، وتمكنت الشعوب العربية وغيرها من القوى التقدمية المُحبة للسلام ومناصرة للقضية الفلسطينية، في أن تحدث أثراً اقتصاديّاً وسياسيّاً ضد إسرائيل.

وفي داخل الأراضي الفلسطينية، يمارس الفلسطينيون مقاومتهم الاقتصادية ويقاطعون بضائع المستوطنات.
الاقتصاد أيضاً، وإن كان سياسة عقابية تستخدمه الشعوب في شكل المقاطعة كأداة للمقاومة، حين تستحيل السبل المباشرة في المواجهة، تستخدمه الدول أيضاً في صراعاتها الداخلية سياسياً. فالحصار الاقتصادي، وفي حالات الصراع السياسي المسلح، يستخدم بشكل بارز. النظام السوري يحاول تركيع بعض المدن وتجويعها من أجل الاستسلام، خاصة تلك المدن التي شهدت حراكاً ضد النظام وخرجت عن سيطرته. كما لجأ بعض أهالي القرى المحاصرة، والتي قطعت عنها خدمات الكهرباء والمياه، إلى تناول الحشائش للبقاء على قيد الحياة، كذلك تعرضت بعض المناطق إلى حصار من قوى مسلحة متشددة في أثناء قتالها مع النظام، وقاوم أهالي بعض المدن حصارهم ورفضوا سيطرة داعش على مناطقهم.

مصادرة الأموال
في الصراع السياسي، تستخدم الدول مصادرة الأموال والثروات من بعض القوى السياسية، مثل مصادرة أموال الفاسدين الذين تمكنوا من جمع ثرواتهم من النهب والسرقة، وهناك المصادرة المالية لأموال بعض السياسيين والتي تدخل أحياناً في إطار تصفية الحسابات. وفي هذا الإطار حُركت في مصر دعاوٍ، وأُصدرت قرارات ضد العديد من الناشطين السياسيين والفاعلين في المجال العام بغرض مصادرة أموالهم.
هذه الإجراءات تستهدف التخويف والتركيع، تمارسها الدولة للضغط من أجل تبديل مواقف الفاعلين سياسياً. منذ 2011 شرعت السلطة المصرية في فرض عقوبات اقتصادية في شكل كفالات وغرامات، تفرض على من يمارس الإضراب أو التظاهر والاعتصام، أو أي فعل احتجاجي. من أمثلة تلك العقوبات تجريم الإضراب وفرض غرامات تصل إلى 100 ألف جنيه مصري ضد من يمارس أو يدعو إلى أو يحرض على التظاهر أو الإضراب. في بداية الثورة، فهم المجتمع والقوى المطالبة بالتغيير، أن هذا القرار يهدف إلى التخويف فقط، لكنه غير قابل للتطبيق. أما اليوم، وعلى خلفية التظاهر ضد قرار التنازل عن جزيرتي "تيران" و"صنافير" للسعودية، طبق القرار وفُرضت على المتظاهرين عقوبات وصلت إلى 100 ألف جنيه عن كل متظاهر حتى يتم الإفراج عنه. وقد تجاوزت الأموال، التي فرضت على المتظاهرين، أكثر من 4 ملايين جنيه مصري، ودفعت بالفعل الأموال ولكنها جمعت عبر اكتتاب شعبي للإفراج عن المدافعين عن الأرض، والرافضين قرار التنازل، وهذا يُعتبر شكلاً من أشكال المقاومة أيضاً يستدعي الفخر، والمزيد من التأمل.
(باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية) 


المساهمون