الاعتراف الأخير بالأسد

الاعتراف الأخير بالأسد

18 يناير 2019
+ الخط -
أصبح الرئيس السوري بشّار الأسد، وليس سورية، فجأة قضية لبعض الدول الخليجية، وفي مقدمها الإمارات، تبعاً للتحوّل نحو إعادة العلاقات معه والقبول به، بعد أن كان عاراً على البشرية ومجرم حرب يُطالَب بتسليمه إلى العدالة الدولية. وقد كانت خطوة افتتاح السفارة الإماراتية في دمشق التي أغلقت قبل ستة أعوام، لتطويق النظام السوري وإحكام العزلة عليه، بحاجة إلى بالون اختبار، ومن يمتص صدمة المشاعر العربية الأولى التي كان يُتوقّع انفجارها جراء ذلك. لم تجد الإمارات غير الرئيس السوداني عمر البشير الذي قام بهذه الخطوة بدون تردّد، لتنفيذ مهام من يحرصون على إبقاء أياديهم نظيفة، لأنّ ليس لديه ما يخسره.
ليس ثمة فاصل زمني غير يوم واحد بين حدثين مهمين. الأول إشادة نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي، ضاحي خلفان، بالبشير في "تويتر" بأنّ البشير أثبت أنّه قائد عربي يقف بجوار العرب وقت المحن، يجب دعمه ومن يساندونه. جاء ذلك على خلفية الاحتجاجات الشعبية السلمية المطالبة بتنحّي الرئيس البشير منذ 19 ديسمبر/ كانون الأول، والتي قابلها النظام بالقوة المفرطة، وصعدت فيها أرواح وسالت فيها دماء بريئة. الحدث الثاني رفع علم دولة الإمارات على سفارتها في دمشق، وكأنّ الإشادة هنا اعتراف صريح بما قدمه البشير من أجل الإمارات، جديدها كسر حالة العزلة المفروضة على النظام السوري بزيارته المفاجئة بشار الأسد يوم 16 ديسمبر/ كانون الأول، وهي الأولى لزعيم عربي إلى دمشق، منذ اندلاع الأزمة في سورية التي تم حرمانها من العضوية في جامعة الدول العربية عام 2011.
كانت الإمارات إحدى الدول العربية التي تؤيّد الثورة السورية في العلن، بينما عملت على تغذية الصراع داخل جماعات المعارضة السورية المسلحة سرّاً. وإذ تؤيّد الإمارات التدخل الروسي 
في سورية، والذي يهدف إلى حماية النظام، فإنّه يتعارض مع الموقف الدولي الرافض لتدخل موسكو في الأزمة السورية لصالح بقاء الأسد. وعليه، لم يكن مُستغرباً تحدّث البيان الإماراتي عن دعم استقلال سورية وسيادتها ووحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية ودرء مخاطر التدخلات الإقليمية في الشأن العربي السوري، بعد ذكره أن تغيّرا طرأ على الموقف السوري، لم يفصّله صراحة. ولعله كان يقصد استعادة الأسد، بعد ثماني سنوات من الصراع، السيطرة على مساحة كبيرة من الأراضي السورية، بعد تلقيه الدعم من روسيا وإيران وحزب الله، وهزيمة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية.
في مثل هذه الظروف، على دول مثل تركيا وإيران أن تتحسّس مواقع أقدامها. كيف لا والدولتان تملكان ناصية المتغيرات الإقليمية المؤثّرة المحيطة بسورية.
أولاً: المتغير التركي، تشعر تركيا، حليفة الولايات المتحدة، بقلق متزايد إزاء تقدم المعارضين السوريين، خشية انتشار النفوذ الكردي على امتداد حدودها مع سورية، فقد سعت، وبسبب قربها الجغرافي، إلى مدّ نفوذها في المناطق ذات الكثافة السكانية، من خلال تقديم الدعم السياسي والمعنوي. وكحالها تجاه بلاد العراق والشام، تتصرّف السياسة التركية بازدواجية، ولا تهمها المشاريع الداخلية للدول، بقدر اهتمامها بضمان مصالحها ونفوذها داخل هذه الدول، والتي تتفاعل وتتنافس مع المصالح الإقليمية الأخرى. خلاصة المتغير التركي أنّه يُعدُّ من أحد العوامل التي تثير البيئة الخارجية السورية، وتدفع الأطراف الدولية إلى التناحر بين مؤيد للوجود التركي ونفوذه ومعارض له. حتى أنّ وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، اضطر للقول، في جولته العربية أخيرا، إنّ بلاده تتفهّم مسوغات تركيا للدفاع عن شعبها وحدودها، وأكّد على تنسيق الانسحاب من سورية معها.
ثانياً: المتغيّر الإيراني. ليست إيران كغيرها من القوى الاقليمية الأخرى التي تسعى إلى بناء استراتيجيتها تجاه سورية بوصفها جزءا من المنطقة، وإنّما تزداد الصورة تعقيداً، لأنّ استراتيجيتها تعتمد على مجموعة أسس: الوضع القائم وفقاً للمشروع الإيراني الرافض قيام نظام سياسي جديد في سورية، يهدّد أمنها القومي، خصوصا إذا ارتبط بالولايات المتحدة. وإظهار الجمهورية الإسلامية دورها الإقليمي قوة مستقلة عن السياسات الأميركية والغربية، ولا تدور في فلكها، بل في حالة تنافر كامل معها. وكذلك محاولة الحفاظ على الثوابت السياسية للنُظم القائمة، خصوصا النظام السوري، وفي دفاعها المستميت عن مصالحها القومية المواجهة للمشاريع الغربية والأميركية، وبالذات مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يقوم على أساس دمقرطة الأنظمة السياسية فيه. ويدعم ذلك أنّ الولايات المتحدة واللاعبين الإقليميين الآخرين يرون أن إيران استحوذت على سورية، بعد خسرانهم المنافسة الإقليمية معها. وحسب الإدراك العام، تسعى إيران، في المقابل، إلى الاشتراك في أي ترتيبات تُسهم في تقرير توازن القوى في المنطقة عامة وسورية خصوصا.
أما المتغير العربي، والذي يُعدُّ أحد أهم العوامل المؤثرة على ثبات الوضع في سورية على ما هو عليه، وذلك مدفوعاً بعامل الخوف من انتقال نموذج الثورة السورية، إذا ما نجحت، إلى 
دول الجوار العربي، وخصوصا دول الخليج. كما أنّ الدول نفسها تخشى من تفاقم خسارتها مصالحها الاقتصادية والتجارية، في حالة سيطرة اللاعبين الإقليميين الكبار، مثل تركيا وإيران وإسرائيل، على الوضع في سورية. ولعلّ في إشارة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، كثيرا من التلميح الذي أضمرته الإمارات، في قوله إنّ على الحكومة السورية أن تتخذ عدداً من الإجراءات التي تؤهلها للعودة إلى جامعة الدول العربية، اتساقاً مع قرارات مجلس الأمن. مضيفاً تحذيره من النفوذ القادم من خارج المنطقة العربية، والذي بات يهدّد الأمن القومي العربي.
نفّذ التحرّك الإماراتي ضربته الاستباقية، في محاولة لاصطياد عصفورين بحجر واحد، تقويض الحضور الإيراني الكثيف في القضية السورية، وتكسير محاولات الحضور التركي. وفي الوقت نفسه، ضمان عدم تحرّك جهات إقليمية أخرى، مناوئة لاحتواء سورية، أو تطبيع العلاقات معها، وفكّ عزلة الأسد. وقد بدأ هذا التحرّك الذي مهّد لهذه المصالحة السياسية، قبل بضعة أشهر، حيث كتب وزير الدولة في الإمارات للشؤون الخارجية أنور قرقاش، إنّه كان من الخطأ إقصاء سورية من جامعة الدول العربية، وأنّه يجب استعادتها، ويجب إرسال قوات عربية لتحلّ محل القوات الأميركية في سورية، بناءً على طلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وقبل أن تصل القوات العربية، أعلن التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، في 11 يناير / كانون الثاني الجاري، بدء عملية الانسحاب من سورية. وذلك بعد أقل من شهر من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراره المفاجئ سحب قواته المتمركّزة هناك منذ أواخر 2014 تحت تحالف عسكري دولي، وبقيادة الولايات المتحدة، ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
والاعتراف الإماراتي في حقيقته توجّس من أنّ تركيا وإيران هما حالياً الأكثر نفوذاً في المنطقة. ويصنع هذا التنافس مشهداً لا يعنيه مستقبل سورية وشعبها من قريبٍ أو بعيد، بقدر ما يحقّقه للنظام السوري الحاكم، فبالاعتراف بانتصاره المزعوم، وتنصيبه مجدّدا على أشلاء الضحايا ودمائهم، سيردّ الأسد الجميل إلى هذه الدول بمزيد من التقتيل الداخلي، من أجل بقائه حامياً لها، ومواجهاً التمدّد الإقليمي الذي يؤزّمها.

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.