الاستعانة بنيتشه على داعش

26 اغسطس 2014
+ الخط -


لعلّ من السخرية أن نستلهم فيلسوفاً بقامة فريدريك نيتشه، لكي نفسر أسباب صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، غير أنّ المطّلع على نظريات الفيلسوف لا يلبث أن يدرك أنّ التنظيم يدخل في باب سيكولوجية المنبوذين، أخلاقيات العبيد وجينيالولجيا الخير والشر أكثر منه في أدبيات الأيديولوجيا الثورية الحديثة.

فالتنظيم ليس حركة إرهابية تقليدية: الإرهاب تقليدياً يستدعي توظيف العنف، لتحقيق مصالح سياسية. أما في حالة تنظيم الدولة، فالعنف مبرر في ذاته ولذاته (على أقلّ تقدير، الزعيم الاشتراكي بوريس سافينكوف، والذي لم يتردد في عنونة سيرته الذاتية "مذكرات إرهابي"، كان سيعلن براءته من التنظيم حتماً).

وليس التنظيم حركة عدمية بالمعنى التقليدي، بل عدمية مضادة، تقوم على اليقين المطلق (نيتشه كان سيرفض مقولة اليقين المطلق في حالة التنظيم، انطلاقاً من فكرة سيكولوجية مفادها بأنّ غياب اليقين وحده يبرّر القتل باسم الدين).

بعبارة أخرى، سواء أكان تنظيم الدولة يتخفى وراء الدين، أم التاريخ، أم حتى سيناريو ما بعد الكولونيالية، فإنّ هذه المقولات، وأخرى، لا تعدو أن تكون سوى تسويغاتٍ خطابية لدينامية واحدة: إرادة القوة. 
لا أقول إنّ مفهوم إرادة القوة قادر وحده على تفسير ما يحدث في العراق اليوم، ولا سيما أنّ هذه الإرادة تبقى رغبة طبيعية لدى الشعوب المقموعة وغير المقموعة، غير أنّ غياب البعد البراغماتي من ذهنية التنظيم بالذات يجعل من المفهوم أكثر جاذبية من أيّ وقت مضى. أو قل أكثر تراجيدية، إذ لم يرد في مخيلة نيتشه أن يأخذ المفهوم هذا المنحى المفزع من الغائية المطلقة، نتذكر أنه، حتى في أدبيات العصابات التقليدية، لا تزال حسابات الموت والحياة تخضع لاعتبارات براغماتية بحتة، أو بلغة مايكل كورليوني، وريث الدون فيتو كورليوني من فيلم العراب، "القضية ليست مسألة شخصية، بل مسألة عمل محض".

نحن، إذن، أمام جماعات لم تعرف أيّ شكل من السلطة الشرعية، أو التمثيل، أو الانتخاب، وهو رديف الترف المفرط في حالة عناصر أجنبية في التنظيم. يضاف إلى ذلك هذا التزامن السحري بين القوى السيكوسياسية العاملة في الأفراد والمجتمع معاً: طاقات بشرية مكبوتة، ليس بالمعنى الفرويدي حتماً، فراغ سياسي هائل، تاريخ حافل من الهزائم العسكرية، تراجع المشروع القومي والأيديولوجيات العلمانية، وعقود من الاضطهاد، القمع السياسي والتخلف الاقتصادي.

وبعيداً عن منطق التبرير والاعتذاريات السوسيولوجية النمطية، نقول إنّ خروج التنظيم عن بديهيات المدنية الحديثة يكاد لا ينفصل عن فشل مشروع الدولة المدنية في العالم العربي، أو على الأقل، لا شيء آخر يفسّر استقرار مشروع الخلافة في المخيلة الشعبية والوعي، أو اللاوعي، السياسي الجمعي بعد مرور نحو مئة عام على سقوط الدولة العثمانية.

في المقابل، لا تزال الفكرة السلفية، وتزامناً مع عجز تنظيم الدولة عن إدراك حقيقة بديهية، مفادها استحالة العودة بالزمن إلى الوراء، تضفي على التنظيم طابعاً هزلياً، أو بعبارة أكثر دلالة، تراجيكوميديا. وإلا فماذا نسمي إعلان دولة الخلافة، تحرير جوازات سفر رسمية، وتزامن العمامة السوداء مع آخر ابتكارات موضة الساعات في خطبة أبو بكر البغدادي، سوى أزمة هوية ذات طابع شيزوفريني، وحالة هجينة من التذبذب بين فانتازيا العودة وحتمية الحداثة؟

أو قل هي مزيج من العبث والواقعية السحرية: الواقعية لوجود التنظيم بيننا، على الرغم من كلّ شيء، والسحرية لاعتقاده بإمكانية الحكم بعقلية سياسية سابقة على اختراع المحرك البخاري.

لا نقول إنّ فكرة العودة إلى الوراء حكر على التنظيمات الدينية السلفية. فالفكرة رسمت حدود مذاهب علمانية حديثة في أوروبا منذ القرن التاسع عشر، بصورة لا تقلّ راديكالية عن الحركات الدينية، وخصوصاً في أدبيات المدرسة الرومانسية، غير أنه في حين قدمت الأولى إرثاً خالداً من الفن والأدب والمسرح والخيال التاريخي، لا تزال الثانية تتخبط في المرحلة الدموية.

بطبيعة الحال، لا نتوقع الكثير من تنظيم الدولة على المستويين الثقافي والحضاري، غير أنّ "فضيلة" التنظيم تكمن بالذات في خطيئته، أي بوصفه يمثل ذروة التخبط السياسي والفكري في العالم العربي، أو بعبارة أكثر مجازية، لم يعد تحت إبليس ما يهبط إليه.

وحتى لا نغرق في المبالغة، وقبل أن تستهوينا الفكرة، وحتى لا نخرج من رومانسية إلى أخرى، أقول لا ينبغي أن يتبادر إلى أذهاننا، ولو من الباب التعزي، أي من المغالطات السوسيولوجية الكلاسيكية، على الرغم مما تنطوي عليه من إغراء فكري، كأن نقول إنّ البغدادي ليس سوى غوته ألمانيا القرن التاسع عشر، أو العكس. ولن تجدي الجدليات الهيغلية الماركسية هي الأخرى، كأن يقال إنّ الفاشية الدينية مرحلة حتمية في تاريخ الدولة الليبرالية الحديثة، وهكذا. بعبارة أخرى، كلّ الحتميات التاريخية والاجتماعية لا تكفي لتفسير همجية التنظيم ووحشيته.

ولنعترف، ما يزال الوقت مبكراً على أنسنة التنظيم، في فهم ذهنية قادته أو دواعي صعوده. ومن يدري، لعلنا نحتاج إلى الذهاب إلى أبعد من نيتشه ومكيافيلي في نهاية الأمر. لكن، في خضم حالة العبث الدائر في العراق، وغيره، أخشى أن تغرينا فكرة العودة إلى أدبيات العهد القديم باستقالة الفكر والاكتفاء بالتعامل مع التنظيم، بوصفه كارثة طبيعية لا أكثر.

avata
avata
سراج عاصي (فلسطين)
سراج عاصي (فلسطين)