الاستشراق ما بعد داعش

الاستشراق ما بعد داعش

24 أكتوبر 2014
+ الخط -

نشأ الفكر الاستشراقي في كنف الحركة الاستعمارية، ومثّل عاضداً لها في إخضاع الشعوب عن طريق كشف نُظُم عيشها، والنفاذ إلى معطياتها الثقافية، ما يسّر للمؤسسة الاستعمارية الهيمنة على هذه الشعوب والسيطرة على مقدّراتها وإرباك مسار تطوّرها الطبيعي وخَلْقِ نُخَبٍ تابعة  تدين له بالولاء.

كانت الإيديولوجيا عاملاً أساسيّاً يوجّه الفكر الاستشراقي، ويصادر منطلقاته، فلم تكن الغاية العلمية إلاّ ستاراً تتخفّى وراءه غاياتٌ ثقافيةٌ بالأساس، نابعة من فكرة المركزية الغربية، واعتبار الشرق هامشيّاً، واقعاً تحت تأثير هذا المركز. ولئن كانت دواعي الإنصاف في هذا السياق تدفع الباحثين إلى استثناء الدراسات الشرقية من هذه المعادلة، فإنّ جلّ ما أنتجه الاستشراق كان محكوماً بغايات براغماتية نفعيّة، سعى الغرب إلى تحقيقها بكلّ السبل.

مرّ الاستشراق بمرحلتين أساسيتين، فيما تنبئ الأحداث المتسارعة، بدءاً من الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول سنة 2001، إلى بروز داعش ومشاهد الذبح على الهويّة، بظهور مرحلة ثالثة: في الأولى، وهي التي واكبت الاستعمار، كان الغرب يقسّم العالم إلى فضاءين متناقضين، تنتفي بينهما كل أنماط العلائق، وكلّ ضروب التواصل، عالم غربي متقدّم ومتحضّر، وعالم آخر متخلّف ومتأخّر، ثنائية شكّلت المهاد الشرعي، وفق الرؤية الغربية، لغزو الدول، ونهب مقدّراتها تحت مسميات ودعاوى مختلفة، من قبيل نشر الفكر التنويري، وإلحاق هذه الشعوب بركب التحضّر. وفي المرحلة الثانية، وهي التي أعقبت الفترة الاستعمارية، فقد بدأ الفكر الغربي يخرج شيئاً فشيئاً من نظرته الاستعلائية، ويتخلّى عن نرجسيته الزائفة، بعدما وقف على هويّات متنوّعة، تؤمّن فكرة التعدّد، وأفسح المجال لمنهجيات نقدية وتأويلية، عملت على استفراغ جهدها في نقد المنتج الغربي المتعالي، وبيان ما يكتنفه من نقائص، أفضت به، في النهاية، إلى تبنيّ فكرة النسبيةّ.

عندها فقط، أصبح الاستشراق مؤمناً بالآخر في هويّته الخاصّة، وبمرجعياته الثقافية الذاتية. لكن، قبل عقدين، وعندما كانت حرب البلقان مستعرة، خرج صمويل هانتينغتون على العالم بنظرية صراع الحضارات، في مقال له شهير في مجلة "فورين أفيرس"، معتبراً أن الدّين، بما هو معطى ثقافي حضاري، هو جوهر الصراع بين الغرب والشرق، ليمنح كل أشكال الصراع بعداً دينياً، وليجد الشعبويون الغربيون مجالاً للتحريض على المسلمين. حينها بدأت المؤشرات جليّة لدخول فكر الاستشراق عهداً جديداً، ما زالت معالمه بصدد الصياغة والتحديد، خصوصاً بعد احتفاء الدوائر الغربية المناهضة للمسلمين بأحداث 11 سبتمبر، واعتبارها دليلاً كافياً على رجحان نظرية هانتينغتون، وهيمنت بروباغندا العداء للإسلام والمسلمين في العالم الغربي، وانتشرت في أوساط أكاديمية عديدة.
 
وحتى الساسة الغربيون لا يخفون هواجسهم بشأن انتشار مظاهر الإسلام الممثلة أساساً في المآذن والحجاب. لذلك، يعارض قسم كبير من الأوروبيين انضمام تركيا إلى الاتحاد الاوروبي. وجاءت مشاهد ذبح الغربيين، التي قامت بها داعش، ونشرتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لترسّخ اعتقاداً كان سائداً لدى دوائر غربية عديدة، بأنه لا مجال لالتقاء الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية، وأنه لا بديل عن الصراع بينهما، وخصوصاً أن كثيرين ممّن ينتمون إلى داعش يتحدّرون من أوساط مسلمة مهاجرة ومقيمة في أوروبا وأميركا منذ عقود، بما يعزّز الادّعاء باستحالة الاندماج، ويبقي على أبواب الصراع الحضاري والثقافي مفتوحة على مصراعيها، وكأنّ أحداث اليوم تبرهن على ما ذهب إليه شاعر بريطانيا، روديارد كيبلنغ (1865 ـ 1936)، عندما قال: "الغرب غرب، والشرق شرق، ولن يلتقيا البتّة".

إذن، هو عهد جديد من الفكر الاستشراقي تصوغه الأحداث الدامية ومظاهر الكراهية للديانات الأخرى، وتحكمه انغلاقيّة مقيتة، تنفي إمكانية التواصل مع الآخر، وإن في أدنى درجات الحوار، لتصبح لغة القتل والذبح والتفجير والقصف اللغة الوحيدة بين عالمين، طالما حلم المتفائلون بإمكانية التقارب بينهما.

avata
avata
عثمان صادق شريحة (تونس)
عثمان صادق شريحة (تونس)