الاحتجاج بالمقاطعة

الاحتجاج بالمقاطعة

02 مايو 2018
+ الخط -
على الرغم مما أبداه عديدون من تحفظ فيما يخص مقاطعة مغاربة عديدين، احتجاجا على منتوجات غذائية وغير غذائية أصبحت بالنسبة للمغربي علامات مميزة لوجوده الاجتماعي وسلوكه الاستهلاكي.. على الرغم من ذلك، لا يفوتنا الوقوف عند هذا النمط الجديد من الاحتجاج الذي يجعل من الوسائط الإعلامية الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعي، كما هو الحال بالنسبة ل "فيسبوك"، منطلقا لشرارتها، خصوصا إذا استحضرنا أنّ الاحتجاج فعل اجتماعي، بغض النظر عن دوافعه وغاياته، فهل لا زال المرء المحتج في حاجة للنزول والخروج إلى الشارع وتملّك (لكي لا نقول احتلال) الساحات، ورفع اللافتات وترديد الشعارات، لكي يحتج؟ أم أنّ المحتج اليوم، استعاض عن ذلك بالمقاطعة؟ صحيحٌ أنّ المقاطعة ليست فعلا جديدا، كما أنّ الافتراضي أدلى بدلوه سابقا، فيما سمّي الربيع العربي، من ضمنه حركة 20 فبراير في المغرب، لكن الجديد هو المقاطعة بالافتراضي، مقاطعة منتوجات واقعية من الافتراضي.
قد يتساءل بعضهم عن المصلحة وراء مقاطعة منتوجات بعينها، ولماذا في هذا الزمان السياسي دون غيره، فهل يتعلق الأمر بتصفية حسابات سياسية، أم يتعلق الأمر بمسألة اقتصادية بحتة، تمس جيوب مغاربة الهامش. لاسيما، وأن المقاطعة تستهدف مواد غذائية أساسية من قبيل الحليب والمياه المعبأة (أو المعدنية كما توصف عادة)، ومواد غير غذائية، لكنها حيوية، كما هو الحال بالنسبة للوقود. وغيرها من التساؤلات التي تجد جوابا لها، في السياسة وفي الاقتصاد، إما بربطها بشخصيات محددة أو بشركات ومقاولات معينة أو طبقة اجتماعية بعينها. لكن الأسئلة التي لم تطرح بعد: ماذا تعني هذه المقاطعة من حيث هي مقاطعة من الافتراضي؟ كيف للمغربي أن يقاطع منتوجاتٍ مادية تنتمي إلى الواقع الملموس، من مجال أقل ما كان يقال عنه أنه وهمي؟
يدعونا هذا الاحتجاج بالمقاطعة إلى إعادة النظر في ذلك التمييز الميتافيزيقي الذي كان يقيمه مثقفون عديدون، إلى وقت ليس بعيدا، بين عالم واقعي حقيقي وعالم افتراضي وهمي، بين الكائن وظله. هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، يدعونا إلى مساءلة ذلك الفصل الذي، طالما نجده في الأدبيات السوسيولوجية المستحدثة التي تعنى بالحركات الاجتماعية، يقيمه علماء الاجتماع بين الأشكال الاحتجاجية والتعبيرات الاحتجاجية. لكن، يبدو أن مثقفينا لا يطرحون من الأسئلة إلا التي يقدرون على إيجاد أجوبة جاهزة لها. لقد نبهنا نيتشه أكثر من مرة إلى حدود سمعنا، تلك الحدود التي ضَيَّقت من فُتحات آذاننا وقيّدت كل إمكاناتنا للتعبير عن أنطولوجيانا: البلاهة.
بعيدا عن أي موقف بنيوي مغلق، وآخر إيديولوجي أعمى، يمكن القول: إن أفعالا احتجاجيةً، قطاعية، افتراضية، فعلية، إنْ كانت تعبر عن شيء، فهي تعبر عن وعي الإنسان المغربي بأنه لم يعد موضوع استهلاك وتراكم للرأسمال بالنسبة للمستثمر فحسب، وإنما هو محرك لسيرورة الإنتاج ومرتكزها، فالكلمة كلمته، والفعل فعله هو أولا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تدعونا إلى الأخذ بالاعتبار في كل تحليل، بأن الافتراضي ليس مجرد وهم لحقيقة الواقعي الملموس، بل صار هو الواقع نفسه، وأن ما كان ينظر إليه مجرد تعبير احتجاجي أصبح اليوم هو الشكل الاحتجاجي نفسه.
وعلى هذا النحو، ليس الاحتجاج بالمقاطعة، والحالة هذه، مجرد احتجاج من الاحتجاجات المعهودة، احتجاج على وضع اجتماعي أو على نظام سياسي أو سياسة مخصوصة، بل هو احتجاج للافتراضي على الواقعي. وعليه، ليس المحتج هنا مناضلا عماليا أو طبقيا حتى، بل هو "مناضل افتراضي"، يعلنها احتجاجا على العالم الواقعي، أو بمعنى أكثر دقةً على واقعية العالم الواقعي، إن لم نقل حقيقته. لعل ما يمكننا استخلاصه من هذه المقاطعة أنه لم يعد مقبولا اليوم النظرإلى الافتراضي كوهم لحقيقة الواقعي، أو كمرآة له، وإنما هو الحقيقة نفسها، حقيقة أوهامنا.
D69BE6B6-08CF-4BC3-9D76-D55F1E1E6798
D69BE6B6-08CF-4BC3-9D76-D55F1E1E6798
عثمان لكعشمي (المغرب)
عثمان لكعشمي (المغرب)