الاحتجاجات العراقية ومسألة السيادة الوطنية

الاحتجاجات العراقية ومسألة السيادة الوطنية

08 أكتوبر 2019
+ الخط -
شكل الحاكم الأميركي في العراق بعد الاحتلال في العام 2003، بول بريمر، النظام العراقي على أسس طائفية، وفيه غلبة للطائفية الشيعية على بقية "المكونات"، وللكرد إقليم شبه مستقل. أراد بذلك تفكيك العراق، وجعله بلداً قابلاً للتشظي والحروب الأهلية في أيّة لحظة ثورية أو أزمة مجتمعية أو سياسية، أي أن وظيفة النظام "الطائفي الديمقراطي الفدرالي" تدمير الدولة العراقية، ومنع انبعاثها دولةً وطنيةً مجدّداً. اتضح ذلك من خلال التدخل الإيراني الكبير في تطييف الطائفة الشيعية العراقية. ومنذ العام 2003، أصبحت إيران قابضة على كل مفاصل الدولة العراقية. هناك رأي سائد يرى أن الدولة العميقة في العراق هي المليشيات العراقية التابعة لإيران، وبالتالي، لم تعد إيران تثق بالنظام الطائفي التابع لها، وشكّلت مليشيات عسكرية من خارج مؤسسات الدولة، كما حال القوى الشيعية، في لبنان واليمن وسورية وغيرها.
تفجرت الأزمة الاجتماعية أخيرا لأسبابٍ تتعلق بهدم بيوت بعض الفقراء الذين أخرجوا منها، ولم تؤمن لهم البدائل، وكذلك بسبب التعامل الأمني مع حقوق أصحاب الشهادات العليا، ولكن سرعان ما رُفعت مطالب اقتصادية كبيرة، من قبيل تأمين السكن، الكهرباء، القضاء على البطالة، وانعدام الخدمات وسواها. ولكن المطالب رفعت شعاراً سياسياً كذلك، أي إسقاط النظام. ولم تشارك في هذه الأزمة المدن الموصوفة بأنها "سنية"، المُدمرة والمهمشة والمفقرة، وهذا متعلقٌ بتهمٍ سابقة لها، لطالما وجهتها القوى الشيعية "للسنة"، وهي أنهم دواعش أو حواضن للجهادية؛ وأيضاً بسبب التعامل الأمني الشديد معها من قبل، وارتكاب مجازر ضد المدنيين، حينما ثاروا سابقاً. ولكن أن تثور مدن "شيعية" والنظام يدّعي تمثيلها أولاً، فهو يكشف أن هذا النظام لا يمثل إلا الفاسدين، وإيران وبدرجة أقل أميركا؛ ولا يغيّر من ذلك أن حكومة عادل 
عبد المهدي جاءت في سياق التخفيف من كل هذه المشكلات، وفي إطار التوافق بين واشنطن وطهران.
عمّت المظاهرات مدنا كثيرة، وعوملت بعنفٍ شديد، وارتفع عدد القتلى بشكل كبير، وهناك تحليلات تقول إن القناصة والذين قتلوا متظاهرين عراقيين عناصر من المليشيات التي شكلت قيادتها غرفة عمليات، لقمع المظاهرات والإجهاز عليها. ويبدو من الصعب ضبط الوضع الاجتماعي المتفجر، ووعود رئيس الحكومة، عادل عبدالمهدي، تشبه وعود من سبقوه من رؤساء الحكومات للتخدير. ويعرف العراقيون أن عائدات العراق سنوياً تزيد عن مائة مليار دولار، وتتحدث تقارير عن سرقة أكثر من أربعمائة مليار دولار، والفساد منظومة متكاملة في هذا البلد، وهو ما تسبّب بانهيار كل أنواع الخدمات "التعليم، المشافي، الطرق، الكهرباء، السكن، البطالة...". وما قاله عبدالمهدي ورئيس البرلمان عن راتب شهري لكل من العاطلين من العمل، وإعادة المفصولين عن العمل إلى أعمالهم، والنظر في مسألة المساكن البديلة، وبما يتعلق الزراعة والصناعة، ليس هو الحل.
إذاً، لم تعد القضية اقتصادية فقط، فالمطالب الآن ترفض النظام البرلماني الطائفي، وتريد نظاماً رئاسياً وطنياً، أو برلمانياً وطنياً. وهناك مطالب سيادية، تستهدف إنهاء الهيمنة الإيرانية على العراق. وهذه الاحتجاجات ليست الأولى، وقد تفجرت مثلها في كل مدن العراق سابقا. وبالتالي أصبحت قضية التظاهرات هي إعادة تشكيل كل النظام السياسي في البلاد، وإلغاء الدستور الذي أشرف عليه بريمر نفسه، وهذا مطلب كبير لثورةٍ لا يعرف لها رأس وقيادة وبرنامج محدّد. وفي أمرها هذا، تشبه ثورة العراق في غياب رأس لها، معظم الثورات العربية. وهناك سبب خاص، أن أية قيادات سيتم كشفها، كما يطالب النظام، ستكون لقمة سائغة لرصاصات المليشيات، وقد فعلوا ذلك من قبل، حيث قتلوا معظم قيادات الاحتجاجات السابقة.
سارعت الكتل البرلمانية التي وجدت الاحتجاجات تتجاوز قدرة الحكومة الحالية على البقاء، وتشير التوقعات إلى احتمال استقالتها، إلى تجميد نشاطاتها في البرلمان، وطالب زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، وآخرون باستقالة هذه الحكومة، وتحدثت المرجعيات الطائفية الشيعية، عن العنف والعنف المضاد، وركب الجميع هذه الموجة، والقصد هو شيطنة المظاهرات، وإخمادها بعسكرة الدولة، وليس بالقتل وحده، وضبط عناصر تلك الكتل والمرجعيات 
وجماهيرها، والتي تعرف جيداً أن لا خدمات في المدن العراقية، وأن النهب والفساد وصل إلى مستوياتٍ عالية، وغير مسبوقة في هذا البلد، وعالمياً.
صحيحٌ أن احتجاجات الأعوام السابقة قد أخمدت بالعنف والاتهام بالدعشنة، وهذا شمل مدن السنة والشيعة، ولكن حجم رقعة المظاهرات واتساعها هذه المرة يتطلب أكثر من حكومة توافقية، كما هي حكومة عادل عبد المهدي، والتي لم تفعل شيئاً منذ تشكيلها قبل نحو عام. ويتطلب حل مشكلات العراق تجاوز كل النظام الطائفي هناك، نظام المحاصصة والحرب الأهلية. ما يحصل في العراق هو بدرجة ما صدى لما يحصل في السودان ومصر والجزائر؛ ويأتي ضمن سياق الموجة الثانية للثورات العربية.
ربما سيحرك نجاح الثورة في العراق ثورة ضد نظام الفساد والطائفية في لبنان، ويتم دائماً إخماد احتجاجاته، وعزل المشاركين فيها عبر خطاب طائفي متشدّد، يضبط الشعب "الطائفي" في إطار الأحزاب والجماعات الطائفية. الثورة العراقية أكثر من احتجاجات اقتصادية، فهي متعدّدة الأهداف: هناك شق اقتصادي له علاقة بالفقراء وحقوقهم، وشق سياسي متعلق بفشل النظام الطائفي في تلبية احتياجات المواطنين، وشق سيادي، يتعلق باسترجاع العراقيين هويتهم الوطنية، وطرد إيران (إيران برّه برّه")، وهذا مطلب تكرّر في احتجاجات سابقة، ما يوضح أنه مطلب مفصلي للمتظاهرين كذلك. ولمّا كانت دول عربية تعاني من تدخلٍ إيرانيٍّ في
شؤونها، فإن مطالب العراقيين بذلك ستفتح الباب للمطلب نفسه في لبنان وسورية واليمن وسواها. وربما يدفع إيران نفسها إلى مراجعة سياساتها الطائفية، وإقامة علاقات جديدة مع العالم العربي، أساسها الندّية واحترام حق الجوار وعدم تطييف الشيعة العرب.
فشلت الأنظمة العربية، بمختلف أشكالها، في تلبية احتياجات المواطنين. ولو نظرنا إلى اختلاف طبيعة الأنظمة السياسية في الجزائر، السودان، مصر، العراق، أمثلة، ونتكلم عن بلدان الموجة الثانية للثورات، سنرى أنها لا تختلف في أنها أنظمة قمعية وناهبة وفاسدة، وتستخدم كل الأساليب للحفاظ على السلطة، وباسم الحفاظ على الأمن والاستقرار ومنع الفوضى والحفاظ على مؤسسات الدولة، وهي أساليب فشلت. ولهذا لم تتوقف احتجاجات الجزائر، ولا مصر، والآن يفتح العراق باباً جديداً في تاريخ الثورات العربية وضرورة تغيير الأنظمة.
كانت الموجة الأولى مُحقة في ضرورة تغيير الأنظمة، وتم إغراقها بالدماء والمليشيات والتطييف والعسكرة والتدخل الخارجي. والآن، تؤكد الموجة الثانية أحقيّة الأولى، وضرورة ذلك التغيير. وخارج هذه الضرورة، هناك محاولة لتخريب الهويات الوطنية والتطييف وعسكرته وتعميق التبعية للخارج، وتأجيل حكم الموت فقط.