الاتفاق الليبي بمنظور واقعي

الاتفاق الليبي بمنظور واقعي

09 سبتمبر 2016
+ الخط -
كان، ولا يزال، اتفاق الصخيرات منعطفاً له ما بعده في سير مجريات الأحداث في ليبيا، فقد رآه بعضهم يعطي بصيصاً من الأمل في وضع حدٍّ للتجاذبات السياسية الداخلية غير المتزنة، وتحجيم التدخلات الخارجية والحد منها، في حين رآه غيرهم مضيعة للوقت في ظل انعدام التوافق بين الأطراف المتحاورة، ووضعها في موضع الأمر الواقع، ما زاد التعقيدات الداخلية في اتساع الهوة بين المتحاورين نتيجة للاتفاق غير المتزن في كثير من جوانبه، لنصير إلى مخاضٍ امتدّ أكثر من ثمانية أشهر، ولا توجد بوادر انفراج في الأزمة الثانوية المتمثلة في الاتفاق نفسه، ولا الأزمة الليبية الرئيسة، بالنظر إلى حلول أخرى تكون أقرب إلى الواقع والتنفيذ من الاتفاق وأدواته التنفيذية، المتمثلة في المجلس الرئاسي الذي لم يتقدم قيد أنملة في حلحلة الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الليبيون.
وبهذا، لا يمكن السير في هذا الاتفاق أو غيره من دون الرجوع إلى الأطراف الداخلية، بجميع أطيافها حقيقةً لا مجازاً ولا تمثيلاً غير واقعي، لما لها من تأثير كبير في مجريات الأحداث المتعاقبة على الصعيد الداخلي. ومن جهة أخرى، وبمفهوم شمولي، فإن استقرار الدولة والوصول بها إلى اتفاقٍ يرضي جميع الأطراف، فإنه تحدّده ثلاثة محدّدات رئيسية:
الأول: مواقف الأطراف الداخلية نفسها، "المؤتمر الوطني العام"، والبرلمان المنحل ومدى قدرتهما على الحوار مع بعضها، والعمل على إيجاد صيغةٍ توافقيةٍ فعلية بينهم. وعند النظر بمنظور واقعي إلى اتفاق الصخيرات، نجد أن هذا "المحدّد" لم تكتمل أركانه عند توقيع الاتفاق، بل إن المخولين بالتوقيع من الجسمين "المؤتمر" و"البرلمان" أعلنا في وقتها أنهما في حِلّ من هذا الاتفاق، لِيوقَّع بعدها بأعضاء من كليهما بمخالفةٍ للجسم الأم، معتمدين على مبدأ المغالبة والأمر الواقع، وليس التوافق، ليصير بعدها أمراً واقعاً، تتعامل بمقتضاه الدول الأممية الداعمة له، والتي غضّت النظر، ولو جزئياً عن الاختلاف الناشئ عنه، وبدأت تتعامل مع
المجلس الرئاسي المنبثق عنه، كسلطة تنفيذية وحيدة في البلاد. وإلى هنا، لا إشكال إذا نُظر بمبدأ المغالبة وتهميش الآخر، لكن الإشكال في آليات التنفيذ التي لحقته، فمن جهةٍ يُهمّش البرلمان المنحل المتمثل في رئاسته، ولا يكون جزءاً من الاتفاق عند التوقيع. ومن جهة أخرى، يُلزم باعتماد الحكومة المنبثق عن المجلس الرئاسي، والتصديق عليها حتى تأخذ الصبغة القانونية، بل ويستجدى في ذلك! في حين كان الاتفاق عند التوقيع بأن يكون اعتماد الحكومة والتصديق عليها من البرلمان بمثابة تحصيل حاصل وإجراء روتيني متفق عليه مسبقاً. ومن ناحية تضمين الاتفاق في الإعلان الدستوري ليكون جزءاً منه، لم يحدّد الاتفاق من يَضمنه، فتارةً يكون المجلس الأعلى للدولة المنبثق عن أعضاء من المؤتمر الوطني العام المؤيد للاتفاق هو من يفعل ذلك. وهذا ما كان، وتارة أخرى يلزمون مجلس النواب بذلك لا غيره. والحصيلة في هذا المحدّد "المؤتمر والبرلمان"، أي الأطراف الداخلية في الحوار، لم يكن بينهم توافق، ولا حتى اتفاق، وهذا ما آل إليه الوضع المتردّي للاتفاق خصوصاً وللبلاد عامة، غير أنه نجح في تَحييد المؤتمر الوطني العام وحكومته في أحيان كثيرة، بل وهُدد بالعقوبات الخارجية لمعرقلي الحوار من المؤتمر الوطني العام وحكومة الإنقاذ، في حين أن البرلمان المعرقل للاتفاق لعدة شهور لم يكن له نصيب من هذا التهديد، لنرى ازدواجية المعايير الأممية وغيرها في التعامل مع الأطراف الليبية المختلفة.
الثاني: الموقف العربي ودول الجوار، حيث أن كثيراً من دول الجوار، ابتداءً بتونس المنعقد فيها جولات الحوار المختلفة، وما كان قبلها في مدينة الصخيرات المغربية، يُعد أمراً إيجابياً وداعماً للحوار والتوافق، غير أن هناك دولاً ترى في الاتفاق بكل أنواعه الداخلي، أو ما كان بواسطةٍ أمميةٍ تراه يشكل خطراً عليها، إذا لم يتماش مع مخططاتها. وهذه الدول لم يكن لها رادع من الدول الكبرى التي تدعم الاتفاق في الكف عن التدخل في الشأن الليبي، وكأن دورها لم يكتمل إلى الآن! وهذا نموذج آخر من ازدواجية المعايير الأممية في الأزمة الليبية.
الثالث: البعد الأممي الدولي، ومدى جديته في الوساطة الحقيقية غير المنحازة لأحد الطرفين، ولا يمكن ذلك إلا بالنظر إلى مواقف (ومصالح) القوى الخارجية التي تؤثر بشكل كبير في مجريات الأحداث في البلاد، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وسواء عبر الدعم لطرف سياسي دون الآخر، أو عبر ممارسة الضغوط على أحدهما من دون الآخر. وهذا ما كان واضحاً طوال الشهور الماضية، المتمثل في التدخل الخارجي في شرق البلاد، بحيث يعطي مؤشراً قوياً على أن الحياد منعدم في قضايا كثيرة في الشأن الليبي.
وبشكل عام، يعتبر اتفاق الصخيرات الليبي بمنظوره الواقعي في شبه الانعدام، ما يستوجب البحث عن بدائل أكثر فاعليةً وواقعيةً، بدل الاستمرار في مخاض طال وقته وانعدمت فائدته، والاعتماد على التوافق الداخلي الحقيقي من غير تجاهل أي طرف، حتى يرى الوفاق الحقيقي النور، وتنشأ على إثره قاعدة تبنى عليها المصالحة الوطنية في ربوع البلاد.