الاتفاق الثلاثي .. هامش على الهامش

الاتفاق الثلاثي .. هامش على الهامش

18 اغسطس 2020
+ الخط -

تحت وطأة الشعور الممضّ بمرارة الترك والخذلان، وربما الغدر، ناهيك بالقهر والغضب الناجم عن الاتفاق التافه بين الخائضيْن في دمنا حتى الرُكب، أميركا وإسرائيل، وبين دولة الإمارات البعيدة عن ميدان الصراع المباشر، يمكن للمرء أن يغرف من قاموسه اللغوي كل مفردات الشجب والاستنكار ضد هذه السقطة السياسية الأخلاقية المهينة، إلا أن ذلك كله لا يحجب، ولا ينبغي له أن يحجب أبداً، رؤية مكونات الصورة بأبعادها الكاملة، كما هي في الواقع، لا كما تتراءى لنا من أول وهلة.
منذ سنوات تُقيم أبو ظبي، شأن معظم الدول الخليجية، صلاتٍ علنيةً مع تل أبيب، تستقبل مبعوثيها جهاراً نهاراً، وتتبادل معها الزيارات السرية (نتنياهو زارها مرتين ورئيس الموساد في ذهاب وإياب) وهناك ممثلية دائمة لإسرائيل تعمل داخل السفارة الأميركية، وعلاقات حب محرّم، أقرب ما يكون إلى سفاح الأقارب، وكل ما حدث الآن أن هذه العلاقات انتقلت، تحت رعاية ترامب الحثيثة وخدمة لأغراضه الانتخابية، من وضع الخليلة إلى مقام الزوجة المشهرة على رؤوس الأشهاد، فما الإضافة الموضوعية، إذاً، لمثل هذه الهرولة الإماراتية المستخفّة بحقوق الشعب الفلسطيني، القابض على الجمر وهو مثخن الجراح؟ وما الغاية المرجوّة من تقديم خدمة مجانية هكذا لوجه الشيطان، سوى الإتيان بشيء تافه من معين الشيء التافه ذاته؟ ولماذا كل هذا التهافت على التهافت حول قطعة حلوى ملقاة على الرصيف، لم يُقبل عليها سوى الذباب الطائر والحشرات الزاحفة؟ وهل يستحقّ الفتات المتبقي على مائدة ترامب بذل كل هذا الجهد لتنظيف غرفة الطعام؟ وما المكاسب المرجوّة من هذه المجازفة بكل ثمين، لتحقيق مغنم صغير، لا يتعدى كلمة "برافو" مع ربتةٍ خفيفةٍ على الكتف؟
ثم ما المقابل الذي كسبته الدولة العربية الوحيدة، المنخرطة، يا للعجب، في كل نزاعات الشرق الأوسط وسائر أزماته الساخنة، غير فتح نزاع مع الفلسطينيين الذين آثروا الصمت على ألاعيبها في شؤونهم الذاتية، بما في ذلك الإملاء عليهم، تجاهلهم سياسياً منذ أعوام، وحجب المساعدات المالية عنهم، لتسويق قيادة بديلة لهم؟ وهل تعليق خطة الضم الذي تفاخر به الإمارات ذريعة لخطوتها هذه، في محله حقاً، إذا كانت الخطة قد تأجلت، وربما طويت، بفضل حائط صد دبلوماسي فلسطيني منسق مع الأردن، وبفعل معارضة كل من الجيش وأجهزة الأمن ونصف حكومة نتنياهو؟
إذا كان من الصعب العثور على مكاسب إماراتية ذات قيمة وطنية أو قومية يعتدّ بها وراء هذه الخطوة المأخوذة كرمى لعيون ترامب، فإن من اليسير عدّ الخسائر التي ألحقتها أبوظبي بالقضية الفلسطينية، لعل في مقدمتها خرق الإجماع وكسر القاعدة المتعلقة بأولوية تحقيق السلام على رجس التطبيع مع إسرائيل، فوق أن هذا التجاوز الفاضح لمبادرة السلام العربية يمثل سابقةً قد تشجع دولا أخرى نائية على ارتكاب مثل هذه المعصية، ومن ثم إحداث خلل إضافي في ميزان القوة المختلّ أساساً على الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية.
وقد يكون أشد ما أوجع الفلسطينيين من بنود هذا الاتفاق المخزي، ليس فقط تسليم الإمارات بالوضع القائم في القدس والمسجد الأقصى حقيقة منتهية، وازدراء القيادة الفلسطينية الصابرة صبر أيوب على عبث أبوظبي وتدخلاتها في شؤونٍ لا تخصّها، مثل فرض وتركيب زعامة لقيادة فتح والسلطة ومنظمة التحرير، وإنما أيضاً تصوير هذا التنازل المروّع أنه من أجل فلسطين، وخدمة لشعبها المجمع إجماعاً تاماً على رفض هذه الهدية المسمومة، على نحو ما أوضحته الاحتجاجات المندّدة بهذه الفعلة السوداء. 
ومع ذلك، هذا الاتفاق المتزامن مع لحظة ضعفٍ عربيةٍ مؤلمة، وانقساماتٍ بينيةٍ لا حصر لها، لن يغير كثيراً من قواعد اللعبة القائمة على أساس مبدأ القوة، ولن يبدّل شيئاً من الحقائق الراسخة على الأرض، فلا أبوظبي قادرةٌ على إحداث كسرٍ كالذي كانت قد أحدثته مصر في المعادلة التاريخية، ولا إيجاد فارق نوعي في الموازين المتغيرة. وفضلاً عن ذلك، الفلسطينيون باقون في ديارهم ما بقي الزعتر والزيتون، يقاومون بلا كلل، ويربّون الأمل، ولا يساورهم الشك في أن الاحتفال المرتقب بالاتفاق الثلاثي لن يتمخض سوى عن ورقةٍ أخرى مضافةٍ إلى ملف الفرص الضائعة، وعار أبدي يلحق بمن تعجّل اقترافه.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي