بكثير من التفحص، تابع الصحافيون والمراقبون للشؤون الأوروبية مجريات أكثر من 4 أيام ونصف من مفاوضات قادة 27 دولة في عاصمة الاتحاد الأوروبي، بروكسل، حول خطة "الإنقاذ" المالي للاقتصاديات من آثار جائحة كورونا.
ويعد لقاء القمة الأخير الأطول في تاريخ قادة أوروبا منذ عام 2000، أثناء مفاوضات تغيير المعاهدة الأوروبية في نيس الفرنسية، والتي استمرت لأكثر من خمسة أيام.
ولم يكن الأمر بالنسبة لبعض قادة الدول الأعضاء مجرد قمة عادية، فمنذ فبراير/شباط الماضي، لم يلتق هؤلاء القادة، من مختلف الاتجاهات والتيارات السياسية، وجهاً لوجه، من بيدور سانشيز، اليساري الإسباني، إلى فيكتور أوربان القومي المجري المتشدد.
والقضية ببساطة أن دولاً في النادي الأوروبي تضررت أكثر من أخرى من وباء كورونا، وأُرغمت عجلتها الاقتصادية على التوقف، من السياحة إلى الصناعة. دول جنوب القارة، وبالأخص إيطاليا، وجدت نفسها في حالة ضيق شديد، ارتفع خلاله حنق الإيطالي العادي من "الأشقاء" الأوروبيين الذين تخلوا عنه وقت ذروة "الذعر" من كورونا. وكانت هناك مؤشرات باتجاه انخفاض الإيمان ببقاء البلد عضواً في اتحاد وجد نفسه في حالة شلل وغير قادر على إبداء "سياسة تضامن".
وقبل أن يستشعر الأوروبيون خطر ترك روما فريسة خطاب مشابه لخطاب ما قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً بتأهب حزب "الليغا"، والحركة الفاشية الإيطالية (إخوة إيطاليا)، لاستغلال النتائج لمصلحة خطاب "الخروج"، كانت إسبانيا أيضاً، المحكومة من اليساري بيدرو سانشيز، تواجه العجز الأوروبي، لكن دون أن يصل الأمر بعد إلى خطاب الخروج.
وحتى باريس، العاصمة التي تشكل الآن مع برلين محوراً صلباً لدوران عجلة أوروبا إلى المستقبل، وتحتاج إلى مشروع "الإنعاش" الأوروبي، وهو مشروع طُرح في الأصل في مايو/أيار الماضي من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قبل نحو عام من توديع الأخيرة منصبها.
التفاوت الأيديولوجي بين الأحزاب الحاكمة في دول النادي الأوروبي، وبعضه مثير للقلق، كحالتي المجر، من خلال تحالف "فيديز" برئاسة وزراء شديدة التوجه القومي المحافظ، وبولندا بزعامة حزب "القانون والعدالة"، ورئيس معاد انتخابه حديثاً، أندريه دودا، لم يمنع عاصمة الاتحاد بروكسل من الوصول إلى نتيجة تقوم على "تسويات مصالح"، وبالأخص في أوقات تشهد فيها الساحة الدولية تشنجات وتجاذبات صينية، وروسية إلى حد ما، مع أميركا والغرب عموماً.
وأرادت أوروبا أن تظهر بشكل متحد، واستغرق الأمر ما استغرقه من مفاوضات وصلت الليل بالنهار، ومحادثات ومساومات في الكواليس.
ورغم أن الخلاف الأوروبي تمحور حول المال وطريقة توزيعه، إذ وصلت التسويات إلى خفض مبلغ منح مالية من 500 مليار يورو إلى 390 مليارا، دون استردادها، للدول المتضررة، بمساهمة الدول الثرية في الشمال الأوروبي، ورفع قيمة القروض من 250 إلى 360 مليارا، إلا أن السياسة لعبت دوراً حاسماً في "مفاوضات شاقة"، استمرت منذ يوم الجمعة الماضي وحتى فجر اليوم، الثلاثاء، كما اتفق أكثر من قيادي أوروبي على وصفها.
فالتفاوت بين أنظمة حكم، كهولندا والسويد والدنمارك والنمسا، ونظام سياسي إيطالي يوصف في الأروقة، بلطف ودبلوماسية، بأنه "يحتاج إلى إصلاح"، وهو ما ينطبق في السياسة والديمقراطية على حالتي المجر وبولندا، المتهمتين بالانحراف عن المبادئ والقيم التي يقوم عليها الاتحاد الأوروبي، لم تمنع مفاوضي القارة من الوصول إلى بعض القواسم المشتركة كي لا تصل بعض دولهم إلى حافة الإفلاس، كما حصل مع اليونان.
وتتركز عيون الأوروبيين، في بحثهم عن تسويات في اقتصاد سياسي مترابط في سوقهم الضخم، على قوى دولية، كالصين وأميركا، في استغلال أي نافذة لزيادة الشرخ، وطرح خطط إنقاذ بديلة، باستثمارات وأموال ضخمة.
وليس خفياً أن تحركات بكين منذ اندلاع وباء كورونا كانت في ذلك الاتجاه، وتنبه بعض الأوروبيين للعبة الصين، وبتنا خلال الفترة الماضية أمام خطاب أوروبي أكثر صرامة تجاه استثمارات بكين، وإعادة دراسة الحالة اليونانية واحدة من القضايا التي سيقدم عليها الأوروبيون لنزع مخالب التهديد الصيني، وفقا لقراءة بعض قادة الاتحاد.
اليوم يرى بعض قادة أوروبا أنهم حققوا شيئاً تاريخياً لم يكن بالمتناول قبل بضعة أشهر، فحين أعلن رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، في الخامسة والنصف من فجر اليوم، بتوقيت بروكسل، عن تحقيق الاتفاق، اعتبره الرئيس الفرنسي، ماكرون، يوماً تاريخياً لأوروبا.
وذهبت المستشارة الألمانية، ميركل، لوصف الاتفاق بأنه "الإشارة الأوروبية الأهم، والتي ستصل إلى خارج حدود أوروبا، بأننا ورغم اختلاف خلفياتنا قادرون على التصرف"، كما اعتبر كل من رئيس وزراء هولندا، الليبرالي مارك روته، ورئيسة حكومة الدنمارك، ميتا فريدركسن، أن "القرار الأوروبي هام للغاية"، وكلها رسائل للاعبين دوليين يراهنون على فشل القاطرة الأوروبية.
وما أظهرته أيضاً مفاوضات القادة الأوروبيين أن الدول الصغيرة، مثل هولندا، التي تقل مساحتها عن مساحة مملكة الدنمارك، لعبت هذه المرة دوراً حاسماً في إشهار ورقة سياسية قوية بوجه سياسي عنيد، كاد يفجر القمة، مثل فيكتور أوربان المجري باستخدام "فيتو" على الاتفاق.
ورغم أن من يحكمون في فيينا وأمستردام واستوكهولم وكوبنهاغن ليسوا من التيار السياسي ذاته، بل خليط من يمين محافظ وليبراليين واجتماعيين ديمقراطيين في اسكندنافيا، استطاعت هذه الدول، وخصوصا أمستردام، بحيوية رئيس وزرائها الخمسيني مارك روته، والذي يحكم منذ 2010، قلب المعادلة برفض المساومة على المبادئ الديمقراطية وفصل السلطات، الأمر الذي وضع أوربان ودودا البولندي في موقف صعب.
صحيح أن الاتفاق يجب أن يمر على البرلمان الأوروبي قبل أن يصبح نافذاً، بيد أن مسألة تمريره من البرلمانات الوطنية للدول الـ27 سيفتح مجدداً أمام تلك الدول التي قبلته على مضض، مثل المجر وبولندا، إمكانية المساومة مجدداً للحصول على مزيد من المال وعلى هامش للتفلت من شروط تتعلق بإصلاحات لا بد منها.
وفي كل الأحوال، أن تتفق أوروبا بأنظمة سياسية مختلفة على مصالحها، بمبالغ تاريخية ضخمة، وبمساهمة كل الدول الأعضاء في مبلغ قد يصل إلى ألف مليار يورو، إذا أضيف مبلغ موازنة السنوات السبع القادمة، فهذا يعني عملياً أن أوروبا تقدم درساً عن فعالية التكتلات إذا ما نحت جانباً التخندق وراء الأيدولوجيا والاختلاف، واعتمدت على الخبرات التي نجحت مرة أخرى في إنقاذ تكتلها من ورطة تفكك وضعف، ولو إلى حين.