الاتحاد الأوروبي وأزمة الهجرة

الاتحاد الأوروبي وأزمة الهجرة

08 يوليو 2018
+ الخط -
التقى قبل أيام نحو ثلاثين من قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل في اجتماعٍ على جدول أعماله نقطة وحيدة، وهي اتخاد موقف من مسألة الهجرة غير الشرعية التي تفاقمت بشكل غير مسبوق، حتى غدت سببا في التوترات بين أعضائه.
جذور الأزمة عميقة، ولها امتدادات مختلفة ومركبة، تعود إلى أكثر من نصف قرن، أي قبل نشأة الاتحاد نفسه، حين بدأت دول أوروبا الغربية آنذاك تشهد أزمة اقتصادية حادّة، على إثر الحظر النفطي الذي لجأت إليه الدول العربية المنتجة للنفط، بعد المواقف المنحازة التي اتخذتها أوروبا في أثناء حرب أكتوبر 1973.
عمدت هذه الدول، بتعلّة الأزمة الاقتصادية التي مرت بها، إلى إيقاف كل الاتفاقيات التي أمضتها مع دول المغرب العربي. بعد هذا المنعطف التاريخي في تاريخ الهجرة في المتوسط تحديدا، اندلعت أشكال مختلفة من الهجرة غير الشرعية لآلاف المهاجرين الساعين إلى اختراق القلعة الأوروبية التي حرص قادتها من خلال السياسات الهجرية والتشريعات، وحتى الإجراءات الأمنية إلى تحصينها منعا لكل أشكال الاختراق الممكنة. وبعد ذلك بعقد تقريبا، تم إنشاء فضاء شنغن، وهو أول مجال تم إحداثه لإحكام التصرف الجماعي في الهجرة، وإيجاد سياسات
متناسقة على المستوى الأوروبي، تتم تحت جناح هذا الكائن الجديد. وقد كان الاتحاد الأوروبي آنذاك مجرد حلم أو فكرة، وانضمت إلى تلك النواة كل من إيطاليا وإسبانيا قبل أن يتوسع ليضم الدول التي انفصلت تدريجيا عن مظلة الاتحاد السوفياتي، أي دول أورويا الشرقية.
كان انضمام وإيطاليا وإسبانيا حدثا فارقا، باعتباره سيدفع بتغير المشهد الهجري في المتوسط جذريا، وقد أغلق آخر منفذين للهجرة القانونية (إيطاليا وإسبانيا) اللتين ظلتا إلى حدود سنة 1990 مفتوحة للمهاجرين، ولا تفرض على زائريها التأشيرة. ولكن ثمن هذا الانضمام جاء باهظا ومكلفا. وسيتحول مئات آلاف من المهاجرين إلى مهاجرين غير شرعيين، تنامي شبكات التهجير التي غدت جزءا من اقتصاد موازٍ، فضلا على آلاف الضحايا الذين يموتون سنويا غرقا في المتوسط، حتى تحول مقبرة مائية.
لم تتراجع الموجات الهجرية، ووجدت دول شمال المتوسط، وخصوصا إيطاليا وإسبانيا نفسها، في مواجهة ذلك التدفق، ليس لها هامش كبير، فالقانون الدولي وحتى الأوروبي يمنع إعادة ترحيل المهاجرين على تلك القوارب المهترئة، فضلا عن صعوبة معرفة بلدانهم الأصلية، وتحديد جنسياتهم، فهؤلاء يعمدون إلى إتلاف وثائقهم، كما ترفض عدة بلدان أفريقية وغيرها تبادل المعلومات والمعطيات مع بلدان الضفة الشمالية للمتوسط.
تحمل هذان البلدان وحدهما تلك التدفقات، خصوصا إيطاليا، لموقعها الجغرافي في ظل تراخي جيرانها (تونس وليبيا ...)، في إبداء تعاونٍ تراه فعالا في ما سميت مكافحة الهجرة غير الشرعية، خصوصا في ظل الأوضاع الأمنية والاقتصادية التي تشهدها بعد ثورات الرييع العربي. وتحول شمال أفريقيا إلى بوابة عبور للمهاجرين الأفارقة وغيرهم.
استغل اليمين الأوروبي هذه الورقة، وعبأ بها الناخبين، من أجل الفوز في أكثر من انتخابات، فحتى المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي كافحت من أجل استقبال مئات آلاف المهاجرين السوريين، استسلمت أخيرا تحت ضغط رأي عام، يتجه إلى اليمين المتبرم من استقبال هؤلاء.
وقد عمد اليمين الفائز في الانتخابات الإيطالية أخيرا إلى إبداء سياسات أكثر تشدّدا تجاه الوافدين على شواطئ البلاد، فتلكأت في استقبالهم، وأبدت تعاونا منقطع النظير مع "فرونتاكس"، الجهاز الأوروبي لحماية الحدود، ورفضت في الأسابيع الأخيرة استقبال بعض البواخر المتخصصة في إنقاذ المهاجرين، ومنها باخرة أكواريوس التي كانت تقل ما يقارب ستمائة مهاجر تكفلت إسبانيا بعد تردد باستقبالهم.
كانت المواقف في أكثر من عاصمة غربية، أخيرا، متوترة، ولعل أبرز حدثٍ يؤشر إلى ذلك التصريحات الحادة التي صدرت عن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حين أنحى باللائمة
على إيطاليا. كانت المواقف تتجه إلى التصعيد، في ظل رفض إيطاليا أن تظل البلد الوحيد الحريص على تنفيذ اتفاق دبلن الذي يعول كثيرا على دول الواجهة البحرية لاستقبال المهاجرين. وسواء كان الموقف الإيطالي مبدئيا، أو من أجل تحسين شروط التفاوض واستعمال ورقة الهجرة، لمزيد من الحصول على الدعم المالي، فإن تلك المواقف المتباينة دفعت الزعماء إلى الاجتماع في عاصمة الاتحاد الأوروبي بروكسل. وانتهت القمة إلى جملة من النتائج، عدها بعض الزعماء مهمة وغير مسبوقة، في حين قلل آخرون من أهميتها. ولعل أهم النقاط التي توصلوا إليها:
إمكانية إنشاء منصات وصول في بلدان خارج الاتحاد الأوروبي، بالتعاون مع المنظمة للهجرة والمفوضية العليا للاجئين. إنشاء مراكز استقبال للمهاجرين تكون قاعدة لفرز المهاجرين وتحديد مصيرهم، ويكون ذلك قائما على مبدأ التطوع. إجبار كل السفن على احترام القوانين الأوروبية، بما فيها سفن الإنقاذ التي تديرها منظمات إغاثة وجمعيات خيرية وإنسانية. تقديم حوافز مالية لتركيا والدول المتعاونة مع الاتحاد الأوروبي في مكافحة الهجرة. تطوير الشراكة الاقتصادية مع البلدان الأفريقية، من أجل معالجة الظاهرة من جذورها..
وعلى الرغم من كل هذا التفاؤل، فإن تطبيق الاتفاق الهش من أصله سيصطدم بعدة عراقيل سياسية ولوجستية، في ظل تمسك البلدان الأوروبية بسياستها الهجرية الوطنية، واعتبارها مسألة سيادية، ورفض الدول المغاربية إلى الآن تحويل أراضيها إلى مقراتٍ، تؤوي مراكز ولو مؤقتة، تستقبل هؤلاء المهاجرين.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.