الإنسان بين الشرعة الدولية وماركس

الإنسان بين الشرعة الدولية وماركس

10 سبتمبر 2014
+ الخط -

قال سارتر"الملكية الخاصة مثل الركح على الخشبة: يحرر ذات الممثل، لكنه يستعبد قاعة المتفرجين كلها".
كان ماركس قد أسس علاقة من طابع خاص مع جوزيف برودون، الفرنسي صاحب نظرية اللاسلطوية، خصوصاً على خلفية أفكاره في كتاب "ما هي الملكية؟" الذي ألّفه وفق مقولته الشهيرة "الملكية هي السرقة". لكن، وقبل الجفاء الذي أصاب هذه العلاقة إثر صدور مؤلف ماركس "بؤس الفلسفة"، رداً على مؤلف برودون "فلسفة البؤس"، كانت الرسائل المتبادلة قد شملت ليس الملكية فحسب، بل فلسفة الحق برمتها. وقد أسس هذا الجدال مداخل كثيرة راهنة للأفكار المسماة "حرة"، التي أسست للمنظومة البرجوازية في صيغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي وضعت مسودته زوجة روزفلت بعد الحرب الكونية الثانية.

ليس السؤال ما هي هذه الحقوق المخولة بالطبيعة للإنسان، بل من هو هذا الإنسان الذي صنعته تعاليم الروزنامة الحقوقية؟ بعبارة أوضح: من هو إنسان الشرعة الدولية؟

الجواب الذي تبطنه المنظومة الدولية في صيغتها الرأسمالية، هو الذات مطلقة المفرد، وبوصفه كذلك، فإنه الإنسان المنظور إليه خارج التاريخ وخارج الإنسانية: الأبيض لذاته وبالنسبة إلى الأسود، الرجل لذاته وبالنسبة إلى المرأة، الراشد لذاته وبالنسبة إلى الطفل.. إلخ.

لهذا الخواء الفلسفي البرحوازي بالضبط، أعجب سارتر بمقولة لابورت (إننا نجرد عندما نعزل بفكرنا ما هو محكوم عليه ألا يوجد مجرداً). ومع ذلك، وعلى الرغم من الضجيج الكبير الذي لازم الحق الفردي حتى الآن، فإنه لا يعدو أن يكون سوى الطريق الأشد غباوة للإنسانية نحو حرية التملك وحرية الاستغلال. فبقدر ما لا يوجد نظام وسيط بين الرأسمالية والشيوعية، بقدر ما لا يتعايش الحق الفردي والملكية في عالم واحد، إلا من خلال الاستغلال الذي هو نفي مطلق لمطلق الحق.

ثمة شيء من التغنج السياسي نحو الفكر الفرداني الرأسمالي من دعاة الحقانية المعاصرة. فالملكية ليست سوى كفتين: الملكية واللاملكية أو الملكية المشتركة. أما التصنيفات الأخرى فمجرد أنواع من الملكية الرأسمالية. يقال إن ماركس لو عاش في عصرنا، لقال شيئاً آخر وهو "يتلمس" تناقضات الواقع الراهن. طبعاً، لكنه حتماً لن يقول "بنهاية التاريخ". أما أصحاب هذه المقولة المتزلفة، فأكيد أنهم لم يعيشوا لا عصرهم الراهن، كما هو، ولا عصر ماركس، وهم ينظرون للجمود والعقائدية من وجهة نظر الماركسية نفسها. غير أن الأمر لا يتوقف، بالضرورة، على اختلاف العصور فقط. فقد اكتشف أرسطو الأمر في العصر السحيق من خلال معادلة واضحة: (ملكية "أ" لا يمكن فهمها إلا بفقدان "ب" ملكيته الخاصة).

وفي كتابه "المسألة اليهودية"، يفكك ماركس مفهوم الحق في التعاليم البرجوازية المسماة دساتير وقوانين الحقوق على النحو التالي "لكن حق الإنسان، أي الحرية لا ترتكز على علاقات الإنسان بالإنسان، وإنما على الأصح، على انفصال الإنسان عن الإنسان، إنه الحق في هذا الانفصال، حق الفرد المحدود في ذاته، إنه التطبيق العملي للحق في الحرية، الذي ليس سوى الحق في الملكية". هنا، ينظر ماركس من خلال قوانين التطور لاستخلاص زيف هوية إنسان الحق الفردي، وزيف النتائج المترتبة عنها. إن اكتشاف أنانية النظام الرأسمالي ليست مهمة الشاقة. "لنلاحظ واقع حقوق الإنسان المتميزة عن حقوق المواطن، ليست سوى حقوق عضو المجتمع البرجوازي، يعني الإنسان الأناني، المعزول عن الإنسان وعن التاريخ". مقولة ماركس هذه تفضح رومانسية البرجوازية وتطلعها المشبوه نحو الملكية والسيادة في العالم. ليس فقط لأنها أسست للإنسان الأناني، فهذه مهمتها، ولكن، لكونها صنعت بالباطل الملموس إنساناً لم يوجد قط ولم يكن له أن يوجد أبداً. حتى أن الاكتشافات الجغرافية والفضائية، أيضاً، لم تكتشف، إلى الآن، هذا العيار من الفرد داخل ذاته، العكس هو الصحيح. لم يكن الإنسان المكتشف من الرحلات البحرية سوى إنسان تاريخي، أي فرد داخل نمط إنتاج بعينه عبارة عن حضارة قديمة.

والميل إلى التبرير السطحي للظواهر والقضاء فكرياً على القضايا الجوهرية العميقة والحاسمة، بتعبير جورج  لوكاتش (دراسات في الواقعية)، هو ما يسميه ماركس "التنازل الرجعي" مقابل "التجاوز الثوري" الذي تتبناه الماركسية حلاً لقضايا إنسان عصر الصناعة ومابعدها. أي الإنسان المغترب داخل تناقض الرأسمال والعمل (المأجور أو السخرة)، وما نجم عن ذلك من أشكال الاغتراب الفكري والديني والوجودي... إلخ. وعلى نحو غير مطابق، يساق الحق الإنساني في عصر الرأسمال العابر للقارات، ليس كنتيجة لبنية طبقية ناتجة من هذه التناقضات، إنما العكس تماماً، يساق كماهية لا تاريخية.

إذن؛ هل يمكن لإنسان الشرعة الدولية أن يحلم، مجرد حلم، بالكرامة المتأصلة في البشر، إذا كانت كل حقوقه الأخرى مشروطة بتوقيعه، من دون قيد على الملكية الخاصة. على هذا النحو، يبدو الإعلان الدولي بمثابة إعلان عما هو غير ممكن. وعلى هذا النحو، أيضاً، تبدو المرافعات، سواء الداخلية أو الدولية، أقرب إلى التسول منها إلى الدفاع عن الحق.

0388E917-50B5-4C28-8CCA-3486FCC5F6E3
0388E917-50B5-4C28-8CCA-3486FCC5F6E3
الحبيب أعزيزي (المغرب)
الحبيب أعزيزي (المغرب)