الإعلام ومأساة خاشقجي

الإعلام ومأساة خاشقجي

02 نوفمبر 2018
+ الخط -
لم يكن لقضية مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، أن تنال اهتمام العالم من شرقه إلى غربه، لولا الدور المهم والحيوي الذي لعبته وسائل الإعلام في تغطية القضية. وربما لولا التغطية المتواصلة للقضية من مؤسساتٍ إعلاميةٍ كبيرةٍ، عربية كقناة الجزيرة، وعالمية كصحيفتي واشنطن بوست ونيويورك تايمز، لما تحرّك القادة السياسيون من أجل الضغط على السعودية، لكشف ما حدث لخاشقجي والاعتراف بقتله.
وإذا كانت الجريمة البشعة التي تعرّض لها خاشقجي خبراً بحد ذاته يستحق التغطية والتحقيق لمعرفة تفاصيلها وخباياها، خصوصا وأنها مثيرة، وتكاد تكون أقرب إلى فيلم سينمائي مرعب، إلا أن ما أضفى عليها أهمية أكبر أن خاشقجي كان صحافياً، وأن ما حدث له يمثل اعتداء على حرية الصحافة والكلمة، وهو ما يعد خطاً أحمر لدى المؤسسات الإعلامية التي تحترم نفسها وجمهورها.
لذلك يمكن القول إن ثمة مصلحة أصيلة لوسائل الإعلام المحترفة في تغطية مسألة خاشقجي بكثافة وبشكل متواصل، ليس فقط من أجل الكشف عن الحقيقة، وتقديم المتهمين الحقيقيين المتورّطين في اغتياله إلى العدالة، وإنما، وهذا هو الأهم، توجيه رسالة إلى الطغاة والمجرمين، بأن التعدّي على الصحافة والصحافيين والكلمة الحرة خط أحمر لا يجب تجاوزه.
في المقابل، كشفت أزمة خاشقجي عن نوع آخر من الإعلام غارق في التضليل، والدفاع عن المجرمين. ففي البداية، صمتت وسائل الإعلام السعودية عن جريمة اغتيال خاشقجي، وظلت خارج التغطية أكثر من أسبوعين، إلى أن اعترفت السلطات السعودية بوقوع الحادثة داخل القنصلية السعودية في إسطنبول. ففي وقتٍ كانت فيه وسائل الإعلام في العالم تغطي حادثة خاشقجي من إسطنبول بشكل مباشر، وعلى مدار الساعة، كانت قناة العربية تعرض أفلاماً وثائقية عن الطبيعة والشلالات في أفريقيا، وكأن شيئاً لم يحدث. وحتى حين اعترفت الرياض بوقوع الحادث، تبنّت القناة رواية السعودية حول الحادث، وهذا مفهوم في ظل سيطرة المملكة على القناة، وعلى توجهات موظفيها. في حين لم يحتل موضوع خاشقجي ما يستحق من مساحةٍ للتغطية على شاشة القناة، وهو ما يعكس فشلاً مهنياً وأخلاقياً ذريعاً.
جاء الأسوأ من الإعلام المصري (هل يمكن أن يسمّى إعلاماً؟!) الذي تحول، منذ انقلاب يوليو 2013، إلى ماكينة بروباغندا غارقة في الكذب والتفاهة، حين دافعت أبواقه عن السعودية حتى قبل أن تعترف السعودية بوقوع الحادث، معتبرة ما وقع لخاشقجي جزءاً من مؤامرة "تركية  – قطرية" ضد السعودية. وهو ما كشفه ببراعة الإعلامي يوسف حسين، صاحب البرنامج التلفزيوني الساخر "جو شو" على التلفزيون العربي، من خلال استعراض رد أفعال هؤلاء قبل اعتراف السعودية بمقتل خاشقجي وبعده.
ربما لم يدر في خلد من خطط عملية اغتيال خاشقجي بالقنصلية السعودية في إسطنبول، وأمر بها ونفذّها، أن الإعلام سوف يكون لاعباً مهماً في كشف ملابسات عملية الاغتيال، بل وشاهداً على تطوراتها وكاشفاً في بعض الأحوال ألغازها. وربما اعتقد، بسذاجةٍ منقطعة النظير، أن الموضوع سوف ينتهي بدون شوشرة أو ضجة كبيرة. وهو ما يعكس غباء واستخفافاً بدور الإعلام القوي في تغطية الموضوعات المؤثرة، كما هي الحال في مسألة خاشقجي. كما غاب على صانع القرار السعودي أيضاً التقدّم المذهل في وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً "تويتر" و"فيسبوك"، والتي باتت تلعب دوراً مؤثراً في نقل الأخبار وتداولها، وتشكيل رأي عام ضاغط حولها.
لا يمكن لأحد لوم وسائل الإعلام التي تتحرّى المهنية والاحترافية على أداء عملها، بل يجب تشجيعها على الاستمرار في القيام بذلك، خصوصاً في ظل ارتفاع. بل يجب أن يُلام المجرم الذي اعتقد أن جريمته قد تمر من دون حساب.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".