الإعلام ليس كما تظنون

الإعلام ليس كما تظنون

09 مارس 2018
+ الخط -
منذ أن درست الإعلام قبل ثلاث عشرة سنة في تخصص الإذاعة والتلفزيون وأنا أسعى جاهدًا لكي أصل إلى حلٍ جذري ونهائي للعلاقة المتنازع فيها بين الأكاديميين والمهنيين الإعلاميين.
يا سادة، الإعلام ليس كما تظنون.

فمن أراد أن يعمل في الإعلام فعليه أن يدرس الإعلام كأحد فروع علم الاجتماع أولًا، وهو العلم الذي يأخذ بتحليل الظاهرة الإعلامية بما تنطوي عليه من عمليات اتصال مختلفة في سياق تفاعلها مع البنية الاجتماعية السائدة ومحددات التفاعل الاجتماعي بين مكونات المجتمع، وثانيًا عليه أن يكون قويًا بعلم اللغة العربية ومتينًا في الفصحى، أو على أقل تقدير ما يسمى بالعربية المبسطة، فإذا حرر أو قدم نشرة أخبار أو برنامجًا لم يجعل آذاننا تتلوث بقلب الضمة فتحة والفتحة ضمة وهكذا، وصحيح أن الدورات والموهبة تصنع إعلاميًا ولكن هذا لا يكفي للنهضة بالإعلام.

ولما كان الإعلام يحمل عناصر عملية الاتصال، وهي المرسل والمستقبل والرسالة والوسيلة ورجع الصدى أو ما يسمى بالتغذية الراجعة، ولا يمكن أن يتم بدون مجتمع يوجه إليه رسالة من خلال استخدام وسائل إعلامية عديدة تتطور دائمًا ويستخدمها جمهور معين، فإن هذا المجال لا يمكن أن ينفك عن المجال الاجتماعي وعلم الاجتماع، ويلاحظ أنه كلما تطور علم الإعلام ظهر مدى ترابطه وتوافقه مع علم الاجتماع، ولذلك فإن علم الاجتماع الإعلامي يتعلق بكل موضوعات علم الاجتماع، وطالما قبلنا أنه علم؛ إذًا لا بد أن يتصف بجميع صفاته من موضوعية ودقة واستخدام مناهج علمية للبحث فيه وقابل للتحليل والوصول إلى نتائج تستخدم لتطوير هذا العلم، سواء بأساليب المرسل أو الرسالة الإعلامية أو التقنيات وزيادة كفاءتها أو في زيادة قدرة الجمهور على الاستفادة من الرسائل الإعلامية وقياس رجع الصدى والتأثير.

وصحيح أن الإعلام فن ومهارة وإلقاء، إلا أنه ينبغي للإعلامي أن يملك أدوات وناصية اللغة والثقافة والمعرفة، وإلا أصبح سلعة تستهلك للضرورة فقط، ومن ثم ترمى من غير رجعة، وإياك أيها الإعلامي أن تغتر أو تبحث عن الشهرة والثراء أو يضحك عليك أحد بصفة إعلامي أو مذيع لنشرة أخبار، فإن لم تمتلك ما سبق من أدوات فلن تنجح.
وإذا أردت أن أحصي عدد الإعلاميين المتخصصين الدارسين للإعلام في إعلامنا السوري لفوجئنا بالإحصاءات والأرقام ولكنه الواقع للأسف.
أسرعت إلى قلمي وأوراقي لكي أكتب لكم هذا المقال، وأنبه مجتمعنا وجامعاتنا وقادتنا إلى تفادي كارثة اجتماعية في المستقبل وصلت ذروتها وحدودها القصوى، وذلك إذا أردنا الاستحواذ على الجماهير فما علينا سوى الاستحواذ على العقول وإذا أردنا الاستحواذ على ذاك العقل المفكر والتحكم فيه، فعلينا بالتحكم في ما يصل لهذا العقل، وأيسر الطرق للتحكم في ما يصل للعقل هو الإعلام عبر إعلامي واعٍ لما يجري حوله، مثقف متسلح بالعلم والمعرفة اتخذ الإعلام علمًا ومهنة لا تجارة وسياسة.

هذا الإعلام من المفترض فيه أنه يضم نخبة متميزة من المثقفين، ومن الإعلاميين الذين استطاعوا الجمع بين الإعلام كعلم من حيث النظريات والمعارف العلمية والإعلام كمهنة من خلال التدريب على ممارسته، مهنة قوامها المعرفة والممارسة والتدريب والموهبة، ولكن الواقع أنّ مؤسسات الإعلام في بلدنا أصبحت تبتعد وتبعد المثقفين من حولها، متناسية الرسالة النبيلة، والغايات السامية، التي تستهدف الارتقاء بالوجدان، وتثقيف الإنسان، وتهذيب الذوق العام، وتشكيل الوعي الصحيح.

لذلك، ومما هو حاصل في مجتمعاتنا العربية، عكفت "الجزيرة" على تأسيس مركز الجزيرة للدراسات الذي يُعنى كما ذُكر على موقعه بتعميق مقومات البحث العلمي وإشاعة المعرفة عبر وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، مساهمة منها في الارتقاء بمستوى المعرفة وإغناء المشهد الثقافي والإعلامي وإثراء التفكير الاستراتيجي في العالم العربي.

فمركز الجزيرة للدراسات ومعهد الجزيرة للإعلام يمثلان النواة الحقيقية لإعلام يؤثر تأثيرًا هائلًا في التوجهات الفكرية والسلوكية لأبناء المجتمع كافة، في وقت نرى إعلامًا يجتمع فيه الغث مع السمين في ظل انفجار معلوماتي كبير.

ومع إغراءات الشُّهرة وهوَس حبّ الظهور وشح الدعم المادي، وبهدف توفير كوادر بشرية، تنازلتْ كثيرٌ من القنوات الإعلامية السورية عن معايير اختيار الإعلامي المثقف المميز الموهوب إلى معايير تحمل صفة الفنانين والراقصين والمطربين والرياضيين وسارت موجة الإعلام الهزيل شكلًا ومضمونًا، وأصبح الإعلام في بلدنا مهنة من لا مهنة له من دون أي دراسة أو علم مسبق بطبيعة الرسالة التي يقوم بها الإعلام.

لذلك وعودًا على بدء لا بد من التفريق بين الإعلام الأكاديمي كأحد فروع علم الاجتماع وبين إعلامي اتخذ الإعلام مهنة له من أجل كسب المال، فالإعلام الأكاديمي يقوم بمهام جليلة وقوية في مجتمعنا العربي عبر أبحاث ودراسات علمية تكشف لنا عن ظواهر خطيرة في مجتمعاتنا وتكون الرسالة التالية لوسائلنا الإعلامية من أجل الاستفادة من هذه الدراسات في تطوير هذه الوسائل ودراسة الجمهور حتى تصل مؤسساتنا ووسائلنا الإعلامية إلى الأهداف التي تطمح إليها.

9CB9D514-057A-4B65-B25D-9B791E559FD6
عبد الله لبابيدي

باحث في الدراسات الإسلامية والإعلامية.

مدونات أخرى