20 سبتمبر 2024
الإدارة الذاتية لجنوب اليمن بين الضرورة والمآلات
يأتي إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم من دولة الإمارات، الإدارة الذاتية لجنوب اليمن خطوة تصعيدية في سياق صراعه على السلطة، فرضتها جملة من العوامل، في مقدمتها تغير منحى الصراع في الجنوب، لاستباق أي توجه سعودي إلى تقليم المجلس عسكرياً، بما في ذلك دعم قوى جنوبية صاعدة لمواجهته في مناطق نفوذه، ومن جهة أخرى، الضغط على السعودية، القوة الرئيسية في مدينة عدن، والطرف الراعي لـ"اتفاق الرياض"، لإقناع حليفها المتمثل بالسلطة الشرعية بتقديم تنازلات جديدة لتنفيذ الاتفاق. إلا أن إعلان المجلس الانتقالي للإدارة الذاتية يشكّل حالة هروب إلى الأمام، من دون ضمانات أكثر من كونه تكتيكاً سياسياً مرحلياً، إذ يفرض عليه تبعاتٍ سياسيةً عديدة، بما في ذلك عجزه الإداري والمالي عن إدارة مؤسسات الدولة في الجنوب، فضلاً عن فرض واقع جديد قد يؤدي إلى تقسيم جنوب اليمن. وفي ضوء الاحتمالات المفتوحة لتطورات المشهد الجنوبي، فإن الثابت هنا أن المجلس الانتقالي لم يكن ليقدم على هذه الخطوة من دون ضوء أخضر من الإمارات أولاً، وارتباك الموقف السعودي في جنوب اليمن ثانياً. فعلى الرغم من تنافسهما وتوظيفهما صراع حلفائهما المحليين في جنوب اليمن لخدمة أجنداتهما التوسعية، فإن الدفع بصراع فرقاء السلطة في الجنوب، وإنْ كان في هذه الحالة من طرف واحد، نحو وجهة جديدة، يصبّ في صالحهما على المدى البعيد.
حدّدت نتائج اتفاق تقاسم السلطة (اتفاق الرياض) بين السلطة الشرعية والمجلس الانتقالي
تموضعاتهما جغرافياً في جنوب اليمن. ففي حين تمركز الثقل السياسي والعسكري للمجلس في مدينة عدن، مع امتداد نفوذه إلى مدينتي لحج والضالع مركز عصبته المناطقية، فإن السلطة الشرعية احتفظت بمدينتي شبوة وحضرموت منطقتي نفوذ لها، فيما تحولت مدينة أبين إلى منطقة تماسّ بين قوات المتصارعين، لكنها ظلت شوكة الميزان التي قد ترجّح موازين القوى لصالح طرفٍ في حال حُسمت ولاءات بعض قياداتها العسكرية. إلا أن تجاذبات فرقاء الصراع في المناطق الجنوبية انعكست على الإدارة السياسية لمدينة عدن، وكذلك على مظاهر الحياة اليومية التي تمسّ حياة المواطنين. ففي حين غدت القيادة العسكرية السعودية هي السلطة العليا في المدينة، مع محاولتها تقييد سلطة المجلس الانتقالي سلطة أمر واقع، بأشكال عديدة، فإن المجلس أدار عدن بالأزمات باعتبارها ورقة ضغط سياسي على السلطة الشرعية، حيث عرقل عمل مؤسسات الدولة، الأمر الذي فاقم معاناة المواطنين، كما منع الحكومة اليمنية من العودة إلى مدينة عدن. إلا أن تبلور احتجاجاتٍ شعبية في المدينة تدين فرقاء الصراع بعد كارثة السيول التي أودت بحياة أكثر من عشرين مواطناً، بما في ذلك تهدّم مئات المنازل، سرّع من إعلان المجلس الانتقالي للإدارة الذاتية للجنوب، لمنع أي تحرّك شعبي ضده، وتحميل الحكومة اليمنية مسؤولية الالتزامات الإنسانية المترتبة على كارثة السيول. ومن جهة ثانية، لوقف التحرّكات العسكرية المناوئة له في المناطق الجنوبية الأخرى. ومن جهة ثالثة، وهذا الأهم، تفويت الفرصة على السعودية لجرّ قوات "العمالقة" الجنوبية إلى صراع جنوبي - جنوبي مع قوات المجلس الانتقالي، حيث بدت مؤشرات التوجه السعودي الجديد واضحةً على الأرض، فيما حملت بعض قيادات المجلس "إخوان" السعودية مسؤولية ذلك، على حد وصفها.
إن فشل المجلس الانتقالي الجنوبي، بوصفه سلطة أمر واقع، في تحمّل مسؤولياته حيال المواطنين في عدن، بما في ذلك فشله في إدارة علاقته بالسعودية، القوة الرئيسية في المدينة، تمظهر في
مأزق هروبي عكس أزمته الداخلية، إذ بدا الارتباك السياسي لافتاً في بيان إعلانه الإدارة الذاتية للجنوب. ففي حين حمّل السلطة الشرعية مسؤولية إجراءاته الجديدة، فإن البيان كان موجهاً إلى السعودية بدرجة رئيسة، لا إلى السلطة الشرعية، حيث كان احتجاجاً يائساً على عدم صرف رواتب منتسبي المؤسسة العسكرية والأمنية ومد الجبهات بالسلاح والغذاء، وذلك بعد امتناع السعودية، في الأشهر الأخيرة، عن صرف رواتب جنود الأجهزة الأمنية التابعة للمجلس الانتقالي. ويبدو أن المجلس أراد إيصال رسالة سياسية إلى السعودية بأن لديه خيارات عديدة، منها السيطرة على الموارد في جنوب اليمن، في حال استمرّت السعودية في تجاهل أزمة الرواتب، وكذلك لامتصاص غضب القوات التابعة له، فيما احتل بند تردّي الخدمات ومعاناة المواطنين في مدينة عدن جرّاء كارثة السيول الترتيب الأخير في بيان المجلس الانتقالي، وذلك يكشف استغلاله معاناة المواطنين التي ليست سوى مطية يوظفها لخدمة مصالحه. إلا أن قيام المجلس بهذا الإجراء الأحادي لا يعمّق الصراع في جنوب اليمن فقط، بل يجعله في حالة انكشافٍ حقيقي، فيما يُصفِّر خياراته السياسية.
يعكس تبنّي المجلس الانتقالي للإدارة الذاتية ضبابية اصطلاحية ما بين توصيفه شكل سلطته الجديدة وأدبياته السياسية، إذ إن الإدارة الذاتية شكل إداري أقل من الحكم الذاتي الذي يأتي بموجب إجراء ديمقراطي ينظم علاقة الإقليم بالدولة الفيدرالية، وهي مغامرة سياسية حتى لو فرضتها ظروفٌ موضوعية طارئة، لا رؤية سياسية واضحة. فحتى مع اعتقاد المجلس أن هذه الخطوة مرحلة أولية لتحقيق الاستقلال، فإنه يعد تضليلاً سياسياً لأنصاره، في حال فشل في تجاوز هذا السقف سياسياً. ومن جهة أخرى، تشكّل التركيبة المناطقية لبنية المجلس الانتقالي وأدائه السياسي عائقاً رئيساً في إدارته جنوب اليمن، إذ أعاد، طوال تسيده على السلطة في عدن، إنتاج صراعات جنوبية مناطقية ماضوية. كما أن رفض قوى جنوبية فاعلة في الساحة الجنوبية هذا الإجراء الأحادي من المجلس يزيد من احتمالية تفجر صراع جنوبي - جنوبي في المستقبل. فضلاً عن أن رفض أربع مدن جنوبية الإدارة الذاتية يعني حصر سلطة المجلس في مدينة عدن، والمناطق الخاضعة له، ما قد يؤدي إلى شرذمة جنوب اليمن.
من جهة ثانية، عكس البرنامج الاقتصادي لتنفيذ الإدارة الذاتية الذي أعلنه المجلس الانتقالي ارتباك رؤيته الاقتصادية، فإضافة إلى الازدواجية في المعالجة ما بين الإبقاء على الكادر الوظيفي في مؤسسات الدولة بتشكيله الحالي، وتشكيل لجان مشتركة لإدارة موارد الدولة، فإن إعلان المجلس عن هيئة إشرافية تابعة له تشرف على مؤسسات الدولة، يعني، في حال تطبيقه، إقامة سلطة موازية لمؤسسات الدولة، تماماً كنموذج "مشرفي" جماعة الحوثي في المناطق الخاضعة لها، الأمر الذي يفتت ما تبقى من مؤسسات الدولة. كما أن خروج المحافظات الغنية بالموارد، كمدينة حضرموت وشبوة، من سلطة الإدارة الذاتية للمجلس الانتقالي يعني عجزه عن مواجهة الأعباء الاقتصادية، وسد احتياجات المواطنين، بما في ذلك التصدّي لفيروس كورونا الذي انتشر في مدينة عدن أخيراً، وهو ما يجعل المجلس الانتقالي أمام خيارين: التراجع عن إعلان الإدارة الذاتية أو إقناع حليفه الإماراتي بأن يكون المصدر المالي البديل لمواجهة التزاماته كإدارة ذاتية. وفيما يفرض تراجع المجلس عن الإدارة الذاتية انكشافه سياسياً أمام أنصاره، فإن تدخل الإمارات لإنقاذ حليفها يرتبط باستعدادها للمجازفة بالتضحية بشريكها السعودي.
في كل الحالات، يحضر الدور الإماراتي - السعودي مُنتِجاً ومحرّكاً صراع السلطة في جنوب
اليمن. فمن جهة، لم يكن إعلان رئيس المجلس الانتقالي، عيدروس الزبيدي، الإدارة الذاتية للجنوب من العاصمة الإماراتية سوى غطاء سياسي إماراتي يشرعن لانقضاضه على السلطة، وفرض أمر واقع جديد، على الرغم من مطالبة وكيلها بالعودة إلى اتفاق الرياض، لطمأنة حليفها السعودي. ومن جهة أخرى، فإن السعودية، بوصفها لاعباً رئيساً في جنوب اليمن وراعياً لاتفاق الرياض، تتحمّل مسؤولية سياسية وعسكرية وأخلاقية مضاعفة لمآلات الوضع الحالي في جنوب اليمن، حيث فشلت، باعتبارها سلطة، في العزل بين المتصارعين في جنوب اليمن، بما في ذلك تخفيض مستوى العنف بينهما، وللحفاظ على مصالحها وحماية قواتها، فإن السعودية قد تمضي في شرعنة الإدارة الذاتية للمجلس الانتقالي في عدن، في سياق تفاهمات سعودية - إماراتية تقسم جنوب اليمن بين القوى المحلية المتنافسة، وكمناطق نفوذ بينها وبين الإمارات، أو قد تلجأ إلى خوض معركة غير مباشرة مع المجلس الانتقالي من خلال وكلائها الجنوبيين. بيد أن التورّط في صراع جديد في جنوب اليمن قد لا يكون خياراً آمناً للسعودية، فيما يظل الإبقاء على حالة الفوضى أكثر ملاءمة لها في الوقت الحالي، وعلى المتضرّر، الضعيف، السلطة الشرعية، القبول بسلطة الغلبة، وما يفرضه المتدخلون في اليمن.
إن فشل المجلس الانتقالي الجنوبي، بوصفه سلطة أمر واقع، في تحمّل مسؤولياته حيال المواطنين في عدن، بما في ذلك فشله في إدارة علاقته بالسعودية، القوة الرئيسية في المدينة، تمظهر في
يعكس تبنّي المجلس الانتقالي للإدارة الذاتية ضبابية اصطلاحية ما بين توصيفه شكل سلطته الجديدة وأدبياته السياسية، إذ إن الإدارة الذاتية شكل إداري أقل من الحكم الذاتي الذي يأتي بموجب إجراء ديمقراطي ينظم علاقة الإقليم بالدولة الفيدرالية، وهي مغامرة سياسية حتى لو فرضتها ظروفٌ موضوعية طارئة، لا رؤية سياسية واضحة. فحتى مع اعتقاد المجلس أن هذه الخطوة مرحلة أولية لتحقيق الاستقلال، فإنه يعد تضليلاً سياسياً لأنصاره، في حال فشل في تجاوز هذا السقف سياسياً. ومن جهة أخرى، تشكّل التركيبة المناطقية لبنية المجلس الانتقالي وأدائه السياسي عائقاً رئيساً في إدارته جنوب اليمن، إذ أعاد، طوال تسيده على السلطة في عدن، إنتاج صراعات جنوبية مناطقية ماضوية. كما أن رفض قوى جنوبية فاعلة في الساحة الجنوبية هذا الإجراء الأحادي من المجلس يزيد من احتمالية تفجر صراع جنوبي - جنوبي في المستقبل. فضلاً عن أن رفض أربع مدن جنوبية الإدارة الذاتية يعني حصر سلطة المجلس في مدينة عدن، والمناطق الخاضعة له، ما قد يؤدي إلى شرذمة جنوب اليمن.
من جهة ثانية، عكس البرنامج الاقتصادي لتنفيذ الإدارة الذاتية الذي أعلنه المجلس الانتقالي ارتباك رؤيته الاقتصادية، فإضافة إلى الازدواجية في المعالجة ما بين الإبقاء على الكادر الوظيفي في مؤسسات الدولة بتشكيله الحالي، وتشكيل لجان مشتركة لإدارة موارد الدولة، فإن إعلان المجلس عن هيئة إشرافية تابعة له تشرف على مؤسسات الدولة، يعني، في حال تطبيقه، إقامة سلطة موازية لمؤسسات الدولة، تماماً كنموذج "مشرفي" جماعة الحوثي في المناطق الخاضعة لها، الأمر الذي يفتت ما تبقى من مؤسسات الدولة. كما أن خروج المحافظات الغنية بالموارد، كمدينة حضرموت وشبوة، من سلطة الإدارة الذاتية للمجلس الانتقالي يعني عجزه عن مواجهة الأعباء الاقتصادية، وسد احتياجات المواطنين، بما في ذلك التصدّي لفيروس كورونا الذي انتشر في مدينة عدن أخيراً، وهو ما يجعل المجلس الانتقالي أمام خيارين: التراجع عن إعلان الإدارة الذاتية أو إقناع حليفه الإماراتي بأن يكون المصدر المالي البديل لمواجهة التزاماته كإدارة ذاتية. وفيما يفرض تراجع المجلس عن الإدارة الذاتية انكشافه سياسياً أمام أنصاره، فإن تدخل الإمارات لإنقاذ حليفها يرتبط باستعدادها للمجازفة بالتضحية بشريكها السعودي.
في كل الحالات، يحضر الدور الإماراتي - السعودي مُنتِجاً ومحرّكاً صراع السلطة في جنوب