الإخوان المسلمون ومغازلة الغرب
الإخوان المسلمون ومغازلة الغرب
مرشد الإخوان، محمد بديع وكارتر، في القاهرة (12يناير/2012/أ.ف.ب)
منذ عقدين، وربما أكثر، يعمل "الإخوان المسلمون" على إظهار صورة معتدلة عنهم، وتقديم أنفسهم ممثلين لإسلامٍ معتدل، فقهياً وسياسيّاً، قادر على فتح أبواب الحوار مع الجميع، وبشكل أساسي مع الأنظمة الغربية. لعل النموذج التركي، الناجح في الوصول إلى الحكم والبقاء فيه ضمن نظام علماني صارم، والتفاهم مع القوى الغربية وعدم الدخول في معارك عدائية ضدها، مثَّل قصة نجاح مهمة للحركات الإخوانية في المنطقة العربية، ويبدو أن هذا أقنع الإخوان المسلمين في الوطن العربي، بضرورة التواصل وفتح قنوات الحوار مع الولايات المتحدة والحكومات الغربية، وقد جرت حوارات منذ عام 2005 بين مسؤولين أميركيين وقياديين في جماعة الإخوان المصرية، ما سهّل لاحقاً التعاون بين الطرفين بعد الربيع العربي.
قبل الربيع العربي، تبلورت نظرية إخوانية، حكمت أداء الإخوان وعلاقتهم بالغرب بعد الثورات العربية. تنطلق من التسليم بوجود هيمنة أميركية وغربية في المنطقة والعالم، والاعتقاد أن أفضل طريقة لمنافسة أنظمة الحكم العربية، والوصول إلى السلطة، هو في التواصل مع الأميركيين وطمأنتهم، وإثارة إعجابهم، بإظهار مزيدٍ من البراغماتية و"الاعتدال"، بما يجعل حظوظ الإخوان في الوصول إلى الحكم أكبر، عبر تجريد الأنظمة العربية من نقطة قوة، تتمثل في العلاقة الوطيدة بالأميركيين والغرب.
ليست المرة الأولى التي تنشأ فيها علاقة بين الإخوان والأميركيين، فعدد كبير من الأبحاث المنشورة غربياً تستعرض بالوثائق تاريخ علاقةٍ تعود إلى الخمسينيات، إذ واجه الطرفان معاً نظام جمال عبد الناصر، وتصديا للمد الشيوعي في أفغانستان في الثمانينيات. وعليه، لم يأت الإخوان بجديد، حين فُتِحَت قنوات التواصل، لكن، هذه المرة، كانت محاولةً لإقناع الأميركيين بجدوى وصول هذا التيار الشعبي إلى السلطة في المنطقة العربية.
النظرية الإخوانية في إقناع الغرب قامت على التالي: هناك أنظمة عربية مترهلة، تفقد شرعيتها، وهناك ظاهرة "الإرهاب" التي يحاربها الأميركيون وحلفاؤهم، وفي هذه الحالة، يمكن للإخوان أن يلعبوا دوراً مهماً في منح شرعيةٍ ما للأنظمة العربية حين يصلون إلى السلطة، بسبب جماهيريتهم الكبيرة، ويقدموا إسلاماً معتدلاً قادراً على التفاهم مع الغرب، على الطريقة التركية، ويواجهوا الإسلام السلفي الجهادي ويحجموا دوره، ويُحدثوا توازناً مع النسخة الإسلامية الإيرانية في المنطقة، ويحافظوا على تعاون اقتصادي وثيق مع الأميركيين والغرب، ولا يدخلوا في عداءٍ سافر مع المصالح الغربية في المنطقة. ولذلك كله، سيكون تحالف الغرب مع الإخوان ضمانة أكبر لاستقرار المصالح الأميركية من التحالف مع غيرهم.
بعد الربيع العربي، برز الرضا الأميركي على الإسلام الإخواني المعتدل مع وصوله إلى السلطة في أكثر من بلد عربي. وفي مصر، أعاد "الإخوان" تأكيد ثوابت السياسة الخارجية المصرية منذ عهد أنور السادات وحسني مبارك، المتمثلة في الحفاظ على اتفاقية كامب ديفيد، والتنسيق الأمني مع إسرائيل، ولعب دور الوسيط في غزة، ودعا الإخوان إلى تعزيز التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة، معتمدين على الاستثمارات الأجنبية، لنهوض الاقتصاد، وبقيت أدبيات الإخوان في مناهضة إسرائيل والسياسات الغربية مادةً للاستهلاك الإعلامي والجماهيري، في وقتٍ ذهبت فيه رموز إخوانية عربية إلى معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، والذي أسسه مارتن إنديك المشهور بتصهينه، وطمأنت من هناك أن سياسة الإخوان "معتدلة" تجاه الغرب.
حتى الموقف الإخواني الصارم تجاه التدخل الغربي في المنطقة العربية تبدّل، لأن بعض التدخلات باتت في صالح التيار الإخواني، وهكذا أصبح الموقف من التدخل الأميركي مرهوناً بالمصالح الإخوانية، ففي خطاباتٍ وفتاوى إخوانية، نجد مطالبة أميركا بوقفةٍ لله في سورية ضد النظام الاستبدادي هناك، ثم رفضاً للتدخل الأميركي ضد داعش في العراق وسورية، لأن أميركا لا تمثل قيم الإسلام، وكأنها كانت تمثلها حين دفعت "الناتو" الى ضرب ليبيا وسط تهليل هذا الخطاب الإخواني. يبدو أن خطاب بعض الرموز الإخوانية يعتبر أن الأمة ومصالحها متجسدة في تيار الإخوان، فإذا كان التدخل مع هذه المصالح فلا بأس، وإلا فالتدخل ضد الأمة وقيم الإسلام.
أثار التقارب الإخواني الأميركي غضب الأنظمة العربية التقليدية، فدخلت في صراعٍ عنيف مع الحالة الإخوانية في الوطن العربي، وجزء أساسي من هذا الصراع يعبّر عن رفض الأنظمة العربية التقليدية حلول الإخوان مكانها داخل دائرة المصالح الأميركية في المنطقة. لذلك، يمكن تفسير اندفاعة نظام عبد الفتاح السيسي للمزايدة حتى على نظام مبارك في التعاون مع الإسرائيليين ضد المقاومة في غزة، بأنه محاولة لإقناع الأميركيين بأنه وما يمثل، الحليف الأكثر موثوقية للغرب من الإخوان.
رضي الأميركيون، بالتدريج، بالأمر الواقع في مصر، وهم راضون، طالما المسائل الأساسية بالنسبة إليهم مُؤَمَّنة، لكن بعض مثقفي الإخوان ما زال يراهن على نظرية الإسلام المعتدل، ويعتب على أميركا بسبب موقفها، ويستخدم موضوع داعش للتذكير بقدرة الإسلام المعتدل على حل معضلة الإسلام الجهادي، ويغازل الغرب، مجدداً، بطرح نفسه حلاً لظاهرة العنف في المنطقة.
لم يعمل الإخوان لتغيير معادلات القوة في المنطقة، بالاستفادة من الهبة الشعبية الربيعية، وسلموا بالسقف الأميركي، ولم يتمردوا عليه، على الرغم من إعاقته التحول الديمقراطي، وظلوا ينافسون الأنظمة العربية التقليدية، ضمن معادلات الوصاية الأميركية.