الإبداع مقاومة، المقاومة إبداع

الإبداع مقاومة، المقاومة إبداع

30 يونيو 2015
لوحة للفنان الأردني محمد الجالوس من مجموعة ذاكرة.
+ الخط -
في مقالٍ سابق رسمتُ ملامحَ حضارتنا الإنسانية الجديدة التي يقودها ماردان يتواشجان اليوم أكثر فأكثر: تكنولوجيا المعلومات وديكتاتورية قوى المال.
ولأنّ لكلِّ حضارةٍ جديدةٍ عالمٌ جديد، فعالمُنا الجديد هذا: كوكبٌ ملوّثٌ تنتظرهُ نكباتٌ بيئيةٌ، سببها النتائج الحرارية للنشاطات البشرية في العقود الأخيرة، تنذر بأوّل كارثة بيئيّةٍ تطمّ المعمورة، لم تأت هذه المرّة من الفضاء الخارجي للأرض، وإنما مصدرها الإنسان الذي تقوده في الغالب المصالح الأنانية للقوى الماليّة.
فمنذ نهاية القرن الماضي، زادت درجةُ حرارة كوكبنا حوالي درجتين سنتيغراد في المتوسط، وارتفع سطح البحار والمحيطات، وتضاعفت ظواهر الفيضانات والتسونامي. كلّ ذلك بسبب الاستخدام المفرط للطاقة، والإفرازِ الذي تجاوز الحدود لغازات الاحتباس الحراري كثاني أكسيد الكربون، والاستهلاكِ الجشع للمواد الأولية للأرض. هذا دون الحديث عن تلوث البسيطة بمخلّفات قذرةٍ متنوِّعة تتركها مجمل النشاطات الإنسانية. ‬‬‬‬‬‬‬‬
‫النتيجة: المنظومة البيئية للكرة الارضيّة تفقد توازنها في هذا العالم الجديد، تترنّح، وتنذر بخرابٍ عاصف لِكوكبنا المسكين: جليد القطب الشمالي يذوب بسرعة مرعبة؛ رويداً رويداً تختفي جزرٌ ومناطق من سطح المعمورة؛ تعلو سطوحَ البحار جزرٌ من البلاستيك و"كاتدرائياتٌ" من القاذورات الصناعية. ‬‬‬‬‬‬‬
يكفي أن نتذكّر أن عدد اللاجئين بسبب الكوارث البيئية تجاوز في عام 2014 عدد اللاجئين من الحروب.‬‬‬

اقرأ أيضاً: ذاكرة المغارات

‫‬‬‬‬‬‬‬‬المفارقةُ المجنونة: في الوقت الذي تضع حضارتنا الجديدة هذه بين طلائع مشاريعها تطويلَ حياة البشر، أي تأجيلَ موعد الموت، وفي الوقت الذي يعاني عددٌ شاسعٌ من الناس من آفة البطالة العضال، ثمّة مرضٌ جديدٌ يكتسح الموظّفين، برز مع بداية هذه الألفية، اسمه: out ـ Burn، الانهيار الاكتئابي. ويسعى برلمانيون إلى إدراجه في قوانين العمل كمرَضٍ مهنيٍّ تتحمّل الشركات مسؤوليته.
هو مرضُ أولئك الذين يهلكهم الجري من مهمّة إلى أخرى صبحاً ومساء، أعينهم على شاشات الكمبيوتر والهواتف، في صراعٍ مجنون مع الزمن، يلتهمهم قلقٌ مستديمٌ من الخسارة أو الخطأ أو البطالة. كأنهم شارلي شابلن في فيلمه التاريخي البديع: "الأزمنة الحديثة"، الذي يسخَر فيه بعبقريته الخالدة من نظام العمل أيّام الكساد الكبير الذي تلا أزمة البورصة في 1929.
سؤال يفرض نفسه: كيف يقاوم الإنسان هاوية هذه الحضارة المجنونة؟
انطلقت من إسبانيا وجنوب أوروبا في 15 مايو/ أيار 2011، بُعيدَ ربيع تونس ومصر بأشهر، مسيراتٌ واعتصاماتٌ ضمّت عشرات الآلاف في مئات مدنٍ أوروبية، أطلقت على نفسها اسم: المستنكرين، متأثرةً حينها بثورات الربيع وقياداتها اللامركزية، وبطبيعته السلمية الاعتصامية، وبدور الشبكات الاجتماعية في تنظيمه، وبطبيعة شعاراته التي تطالب بالحرية والكرامة، لا سيّما شعاره الخالد: "الشعب يريد إسقاط النظام".‬
‫‬‬‬‬‬‬‬‬‫وراء الاسم كُتَيّبٌ لا يتجاوز الـ30 صفحة، عنوانه "استنكروا" (ضمن سلسلة: "أولئك الذين يمشون بالاتجاه المعاكس للريح"، لِدار نشر مغمورة في جنوب فرنسا، لا يعرفها تقريبا أحد)، ظهر في يناير 2011 من دون أيه دعاية إعلامية، وشكّل فجأةً ظاهرةً أذهلت الجميع، إذ بيعت منه في فرنسا خلال ثلاثة أشهر فقط مليون نسخة.‬‬‬‬‬‬‬
وقد ترافقت صرخات هذا الكتيّب مع صرخات الثورات العربية: "الشعب يريد إسقاط النظام"، التي اندلعت مصادفة مع موعد نشر الكتاب وفي تناغمٍ كليٍّ عميق مع فلسفته.
‬‬‬‫كاتبهُ ستيفان هيسل، ولد في 1917! وكان مقاومًا قديمًا للنازية. لخّص في كتابه ما أعطى لحياته هيكلها واتجاهها: الاستنكار والمقاومة.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وسرد فيه دوافع الاستنكار والمقاومة في عالمِ اليوم الأكثر تعقيداً من عصر النازية: ارتفاع الهوّة بين الفقراء والأغنياء، وديكتاتورية الأسواق المالية، وتقليص المكاسب الاجتماعية التاريخية، ومأساة فلسطين، والأوضاع البيئية لكوكب الأرض.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
"ابحثوا حولكم عن القضايا التي تحتاج للاستنكار والرفض وستجدون أكوامًا هائلة. إنسانية الإنسان تكمن في رفضه كل ما يستدعي الاستنكار"، كما ينطوي عليه لبّ الكتاب.‬‬‬
‫قوّة الاستنكار تكمن في سلميّته: تحدّث هيسل مثلًا عن روعة مسيرات أهل "بلعين" في الأراضي المحتلة الفلسطينية، كلّ جمعة، نحو الجدار العازل الذي يرفضونه، من دون استخدام القوّة، من دون رمي حجارة. سخر بقوّة من تسمية دولة إسرائيل لهذه المسيرات السلمية، بـ"الإرهاب اللاعنفي"! "يلزم أن يكون المرء إسرائيليًا ليسمي عدم العنف إرهاباً"، كما يقول.‬‬‬‬‬‬‬
"ينبغي اليوم، مثل الأمس، ممارسة الإنسان لرفضه واستنكاره، ضمن شبكةٍ اجتماعية متفاعلة"، يضيف.‬‬‬
‬‬‫استمرّت حركة المستنكرين إلى اليوم، وأثّرت أخيراً إيحابياً في التغييرات السياسية العميقة التي عرفتها قيادتا اليونان وإسبانيا.‬‬‬‬‬‬‬‬
‬‬‫وفي 17 سبتمبر/ أيلول من العام الخالد 2011 نفسه، اندلعت في أميركا مسيراتٌ واعتصامات في تخومِ وول ستريت، أي مبنى البورصة الأميركية، وقدسِ أقداس قوى المال وسادة هذه الحضارة الجديدة، متأثرةً ببدايات الربيع العربي وحركة المستنكرين الأوروبية، وعلى نفس طرازهما. ‬‬‬‬‬‬‬
أطلقت الحركة على نفسها: "نحن الـ99%"، (أي الذين لا يقبلون جشع وفساد الـ1%، كما يقول عنوانها الرئيس)، ولخّصها شعار: "لِنحتل وول ستريت".‬
شاركت في مسيراتها أسماء كبيرة كنعوم شومسكي وسلمان رشدي، والمخرج مايكل مور، والنوبلي في الاقتصاد ستيجلتس الذي حثّ على الرفض والاستنكار لأننا "ندفع ثمن أخطاء أسواق المال".
ونحن العرب، ما موقعنا من الإعراب اليوم في هذه الحضارة الجديدة؟
القيم المطْلقة لكلّ المؤشرات السلبية: زيادة الأميّة، وتدهور المعيشة، وانهيار مستوى التعليم، وجثوم الظلامية، وضعف القوى التقدمية، وتدمير الذات. كلّها جميعاً، زاد ارتفاعها على الصعيد العربي بشكل عام في السنوات الأخيرة، لا سيّما بعد دخول القوى الظلاميّة المتطرفة على خطّ ثورات الربيع العربي.
ومع ذلك، ما أحوجنا اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى للمقاومة على كلِّ الأصعدة، ولِمشروعٍ حضاريٍّ تنويريٍّ يلتفّ حوله الجميع، يوقف سقوطنا التراجيدي هذا خارج العصر. فكما تقول آخر عبارة في كتاب ستيفان هيسل: الإبداع مقاومة، والمقاومة إبداع.‬‬
(روائي يمني)

المساهمون