الأنسنة في السياق الاستعماري

الأنسنة في السياق الاستعماري

23 يونيو 2016
(تصوير: عباس مومني)
+ الخط -

في كل حالة استعمارية نجد تلك الفئة المتصالحة مع الاستعمار. ونجد دومًا الفئة التي تصنع "أدلجة" للتصالح، بواسطة استخدام ادعاءات تبني قيم "الإنسانية" و"الأخلاق"، فيصبح هذا التصالح بالنسبة لهم أمرا عاديا ومرغوبا، وهو مجرد تبنٍ لقيم "مطلقة" تتعدى السياقات والصراعات.

هناك من يعتبر أن وجود "إسرائيل" بات أمرًا طبيعيًا، ووجود "المجتمع الإسرائيلي" (إن كان بالإمكان التحدث عن مجتمع كهذا)، هو حقيقة لا يمكن محاربتها، بل التعايش معها من أجل "مستقبل" أفضل. لقد أصبح سؤال "المستقبل الذي نريده للجميع" أهم من سؤال الحاضر، وباتت الرؤيا المستقبلية تخلق قطيعة خطيرة تتناسى علاقتنا بالماضي المستمر.

يرى فلسطينيو "الداخل" أنفسهم كمضطرين دومًا للإجابة عن أسئلة كهذه من جديد، وتحديد ملامح هويتهم من جديد، والتعامل مع التحديات من جديد. فمثلًا، سؤال الهوية هو من أكثر الأسئلة التي شغلت الفلسطيني على مدار سنوات منذ النكبة وحتى يومنا هذا.

تعدت الهوية كونها مجرد التعريف عن النفس، إنما أصبحت حاجة تترتب عليها أدوار ومسؤوليات في السياق الاستعماري، إمّا لتفكيك الاستعمار، أو في الحالة السيئة، إبقائه وتعزيزه.

إن الهوية هي ليست بالأمر الثابت، إنما مرتبطة بالسياق الاجتماعي والسياسي للإنسان. ففي الحديث عن هوية الفلسطيني، يجب فهم تجارب الفلسطيني في سياق محدد، وهذه الهوية لا تتحدد بمعزل عن رؤيتنا للعدو، وهو في هذه الحالة النظام الصهيوني الاستعماري.

تبنينا للمواقف مبني دومًا على رؤيتنا للعدو، ونجد هذه الفئة التي تتصالح معه، والتي لا تعتبر أن صراعنا معه هو صراع وجودي، ونجدها تسعى بشكل مستمر إلى تكوين هوية عابرة للصراع.

في العديد من الأحيان، تكون هذه الفئة من دعاة الليبرالية، لكنها في الواقع هي أكثر القيادات أبوية واستعلائية بالذات في التعامل مع فئة الشباب، خاصة الفئة من الشباب التي ترغب بالتغيير الجذري، والمستعدة لكسر الحواجز مع الاحتلال وآلة القمع العسكرية. فنجدهم بعد كل مظاهرة أو يوم غضب يصفون الشباب الذين تحدوا الجيش بأجسادهم بأنهم "طائشون" وغير مدركين لعواقب أعمالهم.

لكن لا تنحصر هذه النقاشات فقط بين طبقة "القيادات" وطبقة الشباب، إنما قد نجدها أيضًا بين الشباب أنفسهم، فلا يمكن أن نتوقع وجود فئة كاملة من الشباب لها المواقف والمعتقدات نفسها، وهذا يظهر بشكل واضح بعد كل عملية تحدث داخل "الخط الأخضر"، حيث تمتلئ صفحات التواصل الاجتماعي بالنقاشات حول شرعية هذه العمليات.

نجد الفئة التي ترفض هذه العمليات لـ"استهدافها المدنيين"، ومن منطلقات "إنسانية"، على حد قولهم. بينما ترفض الفئة الثانية هذه الادعاءات كونها تتناسى السياق الاستعماري وحالة الحرب الدائمة التي نعيشها.

لهذا النقاش دلالته، وهو لا يمثل كل الفئات الشبابية، وهو أيضًا لا يدل على أن الشباب الفلسطيني كله في "الداخل" يعاني من الشرذمة. تطفو على السطح أسئلة الجدوى، وكأن هنالك من يعرف ما هو المجدي للشعب الفلسطيني وما هو غير المجدي، ويسمح لنفسه بتحديد الأولويات وفقًا لمعايير مجهولة لا يعرفها أحد، ويطفو أيضًا سؤال الإنسانية، وكأن الإنسانية أمر مطلق وثابت. في الواقع، نحن نعيش في حالة حرب واستعمار دائمة، والخروج عن هذا السياق يحوّل كل هذا الوضع إلى طبيعي، ويحوّل وجود "إسرائيل" إلى طبيعي.

على السياسة أن تتحول إلى ثقافة يومية وثقافة سياسية. وعلى المشاريع السياسية أن تبقى دائمًا جزءًا من المشروع الفلسطيني الأكبر نحو التحرر، من دون محاولات لفصل فلسطينيي "الداخل" عن باقي أبناء شعبهم تحت ذريعة السياق الخاص، ولا لتحويلهم إلى فئة خاصة تستمتع بالمواطنة الإسرائيلية بدلًا من السعي إلى محوها.

هذا لا يعني عدم الاهتمام بالهموم اليومية للمجتمع، وهذا لا يعني أن ظروف فلسطينيي الأراضي المحتلة هي ليست مختلفة، وجميعها عوامل تؤخذ بعين الاعتبار، لكن يكون الخطر حين يتم فصلها عن السياق الفلسطيني العام وعن دورها في التحرير. طموحنا اليوم هو ليس بناء "الشاب" الفلسطيني ولا "الإنسان" الفلسطيني وفق معايير جامدة وثابتة، ولا بناء أيديولوجيا، إنما بناء ثقافة سياسية ووطنية يومية واعية لوجودها في محيط غير طبيعي يجب تغييره، وهي الثقافة التي تؤدي إلى بلورة هوية سياسية واضحة المعالم نفهم من خلالها دورنا السياسي والاجتماعي، ومنها تنبع مواقفنا. 


(فلسطين)

المساهمون