الأصول النفسية للتطرف

الأصول النفسية للتطرف

09 فبراير 2015
+ الخط -

ما الذي يجعل الإنسان شخصاً متطرفاً، يتبنّى سلوكات عنيفة؟ سؤال جوهري لا بد أن يكون منطلق البحث في فهم الظاهرة المتطرفة، الحائزة على الاهتمام الدولي، في الفترة الأخيرة، مجسدة في عمليات تنظيم "الدولة الإسلامية"، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فرز السلوكات بين ما هو طبيعي غرائزي وغير ذلك من السلوكات اللاطبيعية خطوة أولية ضرورية، لرسم مسارات ذات معنى، تسهّل الوصول إلى نتيجة يعتدّ بها.

تقول أغلب الدراسات إن التطرف خارج الأزمات النفسية الحادة ينشأ انعكاساً مباشراً لظروف المعيشة القاسية، لكن المفاجأة الحقيقية أن قلة من أصحاب وضعيات المعيشة الصعبة هم من ينجرّون، فعلاً، إلى التطرف مقارنة بالوعاء الكلي. فإن كان هناك نسق معين، يؤدي إلى إيجاد السلوك المتطرف، فغيابه لدى عناصر تنتمي إلى النسق شيء محير، كأن يتصرف نمر جائع بعاطفية وحنان مع طريدة يجمعها به ثأر قديم. الاستنتاج الأولي من هذا التحليل أن البحث في أصول التطرف يتسم بالنسبية، ولا توجد نظرية ثابتة، يمكن أن تعطى لتفسير القضية. ومن الوارد، بل من المرجح، أن ثمة عوامل متداخلة، قد تكبح السلوك المتطرف فتدفنه في الأعماق، وتظهره في أشكال مختلفة عبر الزمن، مثلما هناك عوامل بظهورها يقفز التطرف إلى السطح.

من جهة أخرى، عندما تحلّل السلوك البشري على الصعيد الدولي، يمكن للإحصاءات أن تعطيك تقييمات معتبرة، في مجالات كثيرة، لكن القليل من هذه المؤشرات سيكون فعالاً بالقدر الكافي، ليرسم قواعد عامة، إذا كان منطلقها عمل على فئات محدودة وذات خصوصية. التباين الثقافي هو أحد محددات السلوك البشري، وضمن قائمة المؤشرات غير المؤهلة للاستعمالات المعممة، إذ من الصعب أن تحدد المكان الثقافي لمجموعة ما، مقارنة بمجموعات أخرى، إذا كان كل منها يستند، في تعريفه الثقافي، إلى مكوناته الداخلية حصراً. ليتسم البحث بغياب آلية واضحة لربط العلاقة بين ما يحدث داخل الأنساق الثقافية، في إشكاليات ذات بعد دولي، فقد أصبحت أجزاء العالم مرتبطة ببعضها، سياسياً واقتصادياً ومصلحياً، عبر قيم التواصل السريع، ممثلة في الإعلام، غير أن خطوط الانقسامات الخلفية لم تختف عن الوجود.
وبسحب هذا الشيء على موضوع التطرف، نرى أن نشوء السلوك "البشع" ضمن مجموعة بشرية محددة سيقرأ حتماً بأنه غير طبيعي، من زاوية مجموعة أخرى، على الرغم من أنه تفاعل عادي في نظر أصحابه.

وتلاحظون أنه حتى الأوصاف المعطاة في هذه المعالجة كاسم تطرف في حد ذاته، أو بشاعة، هي كلمات منتقاة من قاموس الاستحسان والاستنكار، ضمن معايير جمعية خلقية، يشترك فيها البشر، لكنها لا تفيد كثيراً في السياق الموضوعي للبحث، أمام العجز عن إيجاد صيغة لفهم الارتيابات الثقافية، من وجهة نظر قيمة وموحدة. استعمال القيميات الكونية، سواء الخلقية أو الدينية، وإلى ذلك، بوصف محايد هو عامل يمكن أن نرى تأثيره في كبح عدد لا بأس به من مرشحي بيئة التطرف للتصرف طبيعياً وفق سياقهم، من دون أن نتمكن من تفسير السلوك الطبيعي الأصلي، أو المنتظر بواسطته. والشذوذ المسجل لا يعني مطلقاً انتفاء إمكانية أن يظهر العنف الطبيعي مستقبلاً بشكل آخر، قد لا يكون مألوفاً بالضرورة.

في المحصلة، نقف أمام إشكالية متعددة الأبعاد؛ داخلية ضمن مزرعة إنتاج السلوك، وخارجية أمام آلية الصواب من التفسير والتصنيف، ثم التصرف على ضوء ذلك. الكل يرى نفسه طبيعياً والآخر خارج المنطق، وهذا ينطبق تماماً على أفراد ما يسمى تنظيم "الدولة الإسلامية"، فهم يعتبرون كل من يخرج عن دائرتهم الطبيعية شخصاً غير قابل للحياة، من دون أن يتأثروا بالمعوقات المتحكمة في سلوك الآخرين.

تخيلوا لو أن الحقل الطبيعي لزاوية النظر بالنسبة إلى كل واحد منا أصبح، فجأة، أوسع مما كان عليه. ماذا لو أن داعش أذاعت إحدى أغاني الواي الواي، ووجدت لها صيغة في نسقها الثقافي، ستتعقد في هذه الحالة مأمورية البت في ما يبدو طبيعياً، وما هو دون ذلك لدى كثيرين، وعلى أي أساس سيحكمون على السلوك. ومع ذلك، أصبحت المسألة متعلقة بنوعية مجال المقبولية الطبيعية، قد تجد العقلانية البشرية سبيلاً إلى التدخل، وضبط المفاهيم بشكل أوسع مما هي عليه. قد تعمل على دعم التلاحم الثقافي بين المجموعات وصناعة أرضية مشتركة بينها، إلا أن مهمتها محاطة في كل لحظة بشبح الفشل في مواجهة كلاسيكيات الانقسام: التاريخ والجغرافيا.

المثنّى - القسم الثقافي
المثنّى - القسم الثقافي
سرحان أبو وائل
مدون مغربي.
سرحان أبو وائل