الأصل بناء الثروة

الأصل بناء الثروة

07 مارس 2019
رأس المال العربي المهاجر 5 تريليونات دولار (Getty)
+ الخط -

سُمي علم الاقتصاد بهذا الأسم المستقل بعدما أدرك أهله ومؤسسوه أنّ الأصل فيه هو بناء الثروة، أو تراكم رأس المال عبر السنين والحُقَب. والدول القادرة على ضمان استمرارية هذا البناء وتفعيله ليكون قادراً على البقاء والنمو هي التي تحقق لنفسها مزايا مطلقة ونسبية تمكنها من التفوق على غيرها. ولذلك جاء عنوان كتاب آدم سميث "بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها" عاكساً لهذه الحقيقة.

والمتطلع في الوطن العربي، يرى أنّ قدرة الوطن على بناء الثروة المنتجة والمبدعة لا تكاد تتراكم، وفي كل مرة تصل إلى مستوى يقرّبها من مرحلة الانطلاق، تتجدد ظروف تبدأ بالقضم في هذه الثروة، أو تفتتها، أو تدمرها. فنبدأ من جديد. وبين مرحلة الهدم للقديم وبناء الجديد يمر جيل أو أكثر أحياناً قبل أن يسترد ما ضاع.

وضياع الثروة يأتي حسب التجارب التاريخية من ثلاثة تطورات سلبية. وهي الحروب والغزو، وتراجع أخلاقيات وكفاءة البشر بصفتهم مبدعين ومبتكرين أو بصفتهم عمالاً وموظفين، أو مدخرين ومستهلكين. والسبب الثالث هو إهمال رأس المال والثروة المتراكمة، وترك الطبيعة تأخذ دورها كما يحصل في الحياة الطبيعية للشجر، كما يقول ابن خلدون، فتكبر وتورق وتثمر وتشيخ وتموت.

ومهما قلنا عن الفترة التي تلت العام 1973، فقد حصل فيها بناء كبير للثروة والبنى التحتية والطاقة الإنتاجية في الوطن العربي. وفي عام 1980، أي بعد هزة النفط التي تلت حرب أكتوبر/ تشرين الأول بسبع سنوات، اجتمع القادة العرب في مؤتمر قمة اقتصادية بمدينة عمان الأردنية قدمت فيها دراسات رصينة مثل "استراتيجية التنمية العربية" و"عقد التنمية العربية".
وتستطيع الدول من خلال التعاون والتكامل أن تعزز بناء ثرواتها الرأسمالية والاجتماعية والفكرية. ولكن ما إن جاء عام 1986، وبعد خلق مجلس التعاون الخليجي عام 1981، ومجلس التعاون العربي 1986 ومن بعده اتحاد المغرب العربي، ولكن هذه نجحت بنسب محدودة في تعزيز بناء الثروة في البلدان الأعضاء في كل منها.

وقد كانت الخسارة الكبرى في هذا الجانب ماثلة في سنوات الربيع العربي التي دمرت بنى تحتية كثيرة. ولو نظرنا إلى سورية، والعراق واليمن والصومال، وليبيا، فإننا نجد أن كثيراً من ثروتها قد بُدّدت.

وخسر لبنان كثيرا من جراء الاعتداءات الإسرائيلية عليه، وقبل ذلك بسبب الحرب الأهلية المدمرة فيه والتي دامت لأكثر من خمسة عشر عاماً. ولا ننسى ما جرى في فلسطين سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية مما منعها بفعل الهدم والمضايقات والمنع من تراكم الثروة أو حتى الحفاظ على ما تبقى منها.

وقد بدأنا نلاحظ تآكل البنى التحتية في دول كثيرة بسبب الأحداث الدامية ونقص الأموال فيها مثل مصر والسودان، وهنالك رؤوس أموال ضخمة في الوطن العربي أدت الحروب واضطرابات المنطقة إلى تعطيل طاقتها من الإنتاج، وبقاء جزء كبيرٍ منها معطلاً وتصعب صيانته.

ولقد أصبحنا حسب الملحمة الشعرية للشاعر الإغريقي هوميروس نفعل ما فعلته بطلة القصة "بينيلوبي" التي تنسج غزلاً، فإذا ما قارب على الانتهاء فكّته وعادت لتغزله من جديد حتى لا تتزوج من أحد بانتظار حبيبها الغائب "أوديسيوس" الذي ذهب في مغامرة بحرية لمدة عشرين عاماً أمضاها بين أهوال البحار ومقاومة الوحش الكبير آكل لحم البشر "السيكلوبس".
لقد أنفق العرب منذ عام 1973 حتى عام 2011 بأسعار عام 2011 ما يقارب تريليوناً وربع تريليون دولار على برامج التنمية والبنى التحتية، والمطارات، والطرق، والجسور، ولربما مبلغاً مثله على الجامعات والمستشفيات والصناعات البتروكيماوية، والمرافق العامة كالمطارات، وسكك الحديد، وغيرها.

وهذا المبلغ الذي يساوي 2.5 تريليون دولار قد بعثر الكثير منه، أو تهالك بفعل سوء الإدارة، أو أن عوامل الطبيعة استنفدت أجزاء كبيرة منه كالأنابيب، وخطوط المياه، وغيرها. وبنية تحتية ورأسمال اجتماعي بهذا الحجم كان يكفي لربط الأقطار العربية بعضها ببعض، وتعظيم الفوائد الكبرى المرجوة منه.

وقد قمنا ببناء مرافق عبر القطاع الخاص في الصناعة، والخدمات ما يقارب حوالي تريليون دولار. ولكن معظم هذه المرافق يعمل الآن دون طاقته، بل وبنصفها وحسب.

ولو فتحت الأسواق العربية بعضها على بعض، لاستطعنا أن نرفع من نسبة استغلال هذه الإمكانات الإنتاجية بشكل كبير. مما يقلل من كلفنا، ويجعلنا أكثر تنافسية وقدرة. ولكن مشاريعنا التعاونية والتكاملية قد تحولت من مقاطعة لإسرائيل ولمن يهددون أمننا كما حصل في العامين 1967 و1973 إلى سلاحٍ يستخدمه العرب بعضهم ضد بعض.

وأخيراً، ماذا فعلنا بالعقول المبدعة والمنتجين المبتكرين ورجال الأعمال أصحاب الطموحات؟ لقد هجّرناهم إما لأنهم لا يتفقون معنا في النهج، أو لأنهم لا يستطيعون ممارسة الإبداع في بلدانهم، وبعضهم قد يُغتال ونحن نتفرج، وآخرون نحبسهم في الفنادق ونحصر إبداعاتهم مما يدفعهم للهرب إلى الخارج.
لو وضعنا قيمة على رأس المال البشري العربي المهاجر، فإنها سوف تتجاوز الـ 5 تريليونات دولار.

ونتساءل بعد كل هذا عن أسباب التردي الاقتصادي الذي أصاب البعض بالوهن والشلل، وأبقى آخرين يطبقون سياسات من الواضح أنها ستوصلهم إلى نفس المصير.

المساهمون