الأزمة الخليجية.. أثر سالب على حرية التعبير

الأزمة الخليجية.. أثر سالب على حرية التعبير

26 سبتمبر 2017
+ الخط -
قبل إيضاح أثر الأزمة الخليجية على حرية التعبير، يحسُن التذكير بالمعايير الدولية لحرية التعبير والتقييدات المشروعة عليها، ومنها أن حريتا التعبير والصحافة من حقوق الإنسان. وقد تؤديان إلى قيام حالة من التنازع أو التزاحم مع حقوق أخرى، وعندها يؤخذ بأنه عند تعارض مصلحتين يوازن القانون بين حقين، يهدر أحدهما صيانة للآخر، أي للحق الأجدر بالرعاية. وهناك المثال الذي طرحته المحكمة العليا الأميركية: هل تعتبر حرية تعبير أن يصرخ أحدهم في المسرح بوجود حريق، مع أنه يعرف أنه لا يوجد حريق، فيتدافع الناس إلى الخارج فيموت أحدهم؟
من أهم المعايير الدولية التي توازن بين متى تبدأ حرية التعبير ومتى يجب أن تتوقف بل والعقاب عليها، ما نصت عليه المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، أن لكل إنسان الحق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار، وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها. وتستتبع ممارسة الحقوق السابقة واجبات ومسؤوليات خاصة. وعلى ذلك، يجوز إخضاعها لبعض القيود، شريطة أن تكون هذه القيود محددة بنص القانون، وأن تكون ضرورية لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، ولحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة. وتوجب المادة 20 على الدول الأطراف أن تحظُر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية، تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف.

وهكذا، يتضح أن حرية التعبير ليست مطلقة، وأن هناك "واجبات ومسؤوليات خاصة" على بني البشر تجاه الآخرين. وعلى ذلك، يجوز فرض تقييدات على حرية التعبير، بشرط إخضاعها لما يُعرف بالفحص الثلاثي الأجزاء (Three part test) المستخلص من نص المادة 19 من العهد، والشبيهة إلى حد بعيد بنص المادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وكانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان توازن بين مبدأين متنافسين في المرحلة الأولى، ثم انتقلت إلى أن تقييد حرية التعبير يجب أن يكون ضمن أضيق التفسيرات (Narrowly construed).
وفي الوقت الذي ندعو فيه دائما إلى احترام حرية التعبير وحرية الصحافة، فإننا وبالقوة نفسها ندعو إلى إقرار قوانين تعاقب على أية دعوة إلى الكراهية القومية، أو العنصرية، أو الدينية، تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف. والمعروف تاريخيا أن التحريض على الكراهية القائم على التمييز بأنواعه قد يكون مقدمةً لتبرير العنف ضد فئة معينة من السكان، وقد يشكل جريمة ضد الإنسانية التي أصبحت تخضع للمحاكمة لدى المحكمة الجنائية الدولية، إذا فشلت الدولة في محاكمة مرتكبيها، أو تحايلت لتبرئتهم. وهناك قرارات للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، والمحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا سابقا توضح معنى ذلك.
ويعتبر التعليق العام رقم 34 (General comment) أطول تعليق عام للجنة حقوق الإنسان المعنية بالرقابة على تطبيق العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وقد صدر في الجلسة 102 للجنة حقوق الإنسان (11-29 /7 /2011) في جنيف، ليحل محل التعليق العام السابق رقم 10. وصدر بعد ثلاثة لقاءات إقليمية لخبراء عقدت في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا؛ وقدم كاتب المقال، في لقاء عقدته المفوضية السامية لحقوق الإنسان في تايلند، مداخلة عن كيفية تحقيق التوازن بين المادتين 19 عن حرية التعبير و20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عن حظر أية دعوة للكراهية القومية والعنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف. وجاء في التعليق أن "حرية الرأي وحرية التعبير شرطان لا غنى عنهما لتحقيق النمو الكامل للفرد، وهما عنصران أساسيان من عناصر أي مجتمع. ويشكلان حجر الزاوية لكل مجتمع تسوده الحرية والديمقراطية. وترتبط حرية الرأي ارتباطًا وثيقًا باعتبار أن حرية التعبير تتيح الأداة لتبادل الآراء وتطويرها". وتشمل حرية الفرد في التعبير عن رأيه بالضرورة حريته في عدم التعبير عن رأيه.
وتنص الفقرة الثالثة على شروط محددة، ولا تجيز فرض قيود إلا إذا كانت تخضع لهذه الشروط: فيجب أن تكون "محدّدة بنص القانون"، وألا تُفرَض إلا لأحد الأسباب الواردة في الفقرة 3؛ وأن تكون متلائمة مع اختبارات صارمة تتعلق بالضرورة والتناسب.. لا في القانون الذي يحدد إطار القيود وحده، بل أيضاً في تطبيقه من جانب السلطات الإدارية والقضائية.
وتنص المادة 32 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان (تم اعتماده في ختام القمة العربية في تونس في العام 2004)، على أن هذا الميثاق يضمن الحق في الإعلام وحرية الرأي والتعبير، وكذلك الحق في استقاء الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة، ودونما اعتبار للحدود الجغرافية. وتمارس هذه الحقوق والحريات في إطار المقومات الأساسية للمجتمع، ولا تخضع إلا للقيود التي يفرضها احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم أو حماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
وتأسيسا على ما سبق، وبالنظر في التقييدات المقبولة على حرية التعبير، وعلى فرض مخالفة شخص ما للقانون (بقيامه بعمل أو امتناع)، فإن فرض عقوبة عليه يجب أن يتفق مع مبدأي
الضرورة والتناسبية. وعلى ذلك، فإن فرض دولة ما السجن من 3 سنوات إلى 15 سنة و/أو الغرامة بآلاف الدولارات على شخصٍ يتعاطف مع دولة أخرى لا يتفق مع هذين المبدأين. أضف إلى ذلك أن النص على هذه العقوبات القاسية يؤثر على الآخرين (chilling effect)، بما يلجمهم عن حرية التعبير. وطلب بعض الدول من صحافيين يحملون جنسيتها الاستقالة وترك العمل في وسائل إعلام دولة أخرى تحت طائلة العقاب يتعدى التقييدات المقبولة التي تنص عليها المواثيق الدولية. وطلب حكومات بعض الدول من فنادق في أراضيها حذف جميع القنوات التابعة لشبكة قنوات الجزيرة من قائمة البث الفضائي داخل الغرف، وعقاب المخالفين بغرامات باهظة، وإلغاء ترخيص المنشأة الفندقية المخالفة، يخالف حق تلقي المعلومات المنصوص عليها في المادة 19 من العهد الدولي والمادة 32 من الميثاق العربي.
حتى وأنا أكتب هذا التعليق عن حرية التعبير، كنت مجبراً على فرض رقابة ذاتية على نفسي، حتى لا يتم تفسير ما أكتبه على أنه إساءة لدولةٍ ما، قد تقودني الفرصة أو المصادفة للمرور في أحد مطاراتها، وأكون معرّضاً للمحاكمة والمرمطة، وربما التوقيف والحبس أو السجن.
وهكذا يتبين أن الأزمة الخليجية أثرت سلباً على حرية التعبير في دول الخليج العربي التي تعاني أصلاً من مشكلات في هذا المجال، وتقع في ترتيب متدنٍ في مؤشرات حرية الصحافة السنوية، مثل مؤشرات "مراسلون بلا حدود" الفرنسية و"بيت الحرية" الأميركي.
FD10B822-E4CD-4945-B577-D94C6D3E9451
FD10B822-E4CD-4945-B577-D94C6D3E9451
يحيى شقير
خبير في قوانين الإعلام ورئيس سابق للجنة شكاوى الإعلام المرئي والمسموع في الأردن. ماجستير قانون وبكالوريوس صحافة وإعلام. صدر له "قانون ضمان حق الحصول على المعلومات في الأردن والمعايير الدولية". محرّر كتاب "مقدمة إلى التشريعات والسياسة الإعلامية في الأردن".
يحيى شقير