الأردن: السُّلحفاة الشعبية تصل أولاً

الأردن: السُّلحفاة الشعبية تصل أولاً

12 يونيو 2018
+ الخط -
إنّ فريق الإسعافات الأولية، التابع لحكومة هاني الملقي المقالة أخيرا، والمتشكل ضمنا مع أية حكومة هزيلة، من متنفذين ورجال أمن ومُحللين وراصدين وكتّاب ومقترحين لحلول تقليدية، وبيادق بسيطة أيضاً، لم يتمكنوا، أساساً، من استيعاب ما حدث بادئ الأمر، وربما لغاية اللحظة، فقد كانوا يُدخنون النرجيلة ويسهرون بأجواء مخملية رائعة، تحت وهج الموسيقى وأضواء الفوانيس الملونة في إحدى الخيام الرمضانية، وبينما يتناولون القطايف والمكسرات، أخذوا يعرضون صفحاً، بابتساماتٍ ساخرة، عن بوادر الدعوات التي انطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي. 

هناك عدة أسباب وجيهة أدت إلى خروج التظاهرات بالصورة الناصعة التي جاءت عليها، والتي دفعت بصحف عالمية مرموقة، انهمكت بالترقب، إلى الترجمة الحرفية لشعاراتها من قبيل: "طاق طاق طاقية، حكومة حرامية"، ووصف الحراك بمسميات رائعة: طوفان الشارع الأردني، أو بحر من الاحتجاجات يجتاح المملكة، وما إلى ذلك من الصور الفنية. ومن المُرجح ضلوع أي من هذه الأسباب في اللعبة.

الطوابير الخامسة، على اختلاف منشئها، لم يسعفها الوقت في عدّ العدة لإجراء بعض المنغّصات اللازمة، أو حتى الزج بكرة الثلج "الجماهير الغاضبة" بعيدا عن مسارها الطبيعي، نحو المُنحدرات لمزيدٍ من التصعيد.

ما حدث هو أن تلك الدعوات الفيسبوكية انتشرت كالنار في الهشيم في يوم قائض، كما لو أن قبيلة معادية شرسة، تتمتع بصيتٍ قبيح (الحكومة ونهجها) قد هجمت دفعة واحدة على قبيلةٍ أخرى أكبر، وهم الشعب بطبيعة الحال، فما كان من أفراد هذه القبيلة الأخيرة، الجالسين في بيوتهم، خلف شاشات الهواتف، يتناولون القطايف المحلي، لأنهم لا يملكون أثمان السهرات الرمضانية الباهضة، إلا أن نفخوا في البوق بصوتٍ دوّى في المدى، فخرجوا ليلا، فتيات وفتيان، من مختلف الطبقات، نحو ما سيصبح خيمتهم الرمضانية مفتوحة الفضاء، بلا أي تفكير أو تريث، معلنين، على قلبِ رجل واحد، اللعنة على الأعداء، ومرددين هتافات لم تكن أحادية المصدر كما درجت العادة، إنما على العكس، فالكل أخذ كتفا في هذه الهتافات، حتى أنني لم أر أية تقنيات أو تكتيكات للهتاف كتلك التي كانت في الحراكات الشعبية القديمة، كحراك الإخوان المسلمين، الغائب تماما عن هذه الهبة المُتضخمة؛ فلم نرى لحىً طويلة تصعد فوق تلك السيارات، التي تُشبه سيارات الكرنفالات، المُجهزة بمكبرات الصوت والأعلام الحزبية، وفي كثير من الأحيان، لم يكن لدى الشبان بوق، مجرد بوق بعشرة دنانير، يعمل بالبطاريات، للهتاف، إنما استعاضوا بدلا من ذلك كله، بتطوع الصارخين، والتنافس بين بعضهم البعض على رفع الصوت، وكل راح يُبدع في تأليف الشعارات ويصرخ بها، كتلك التي خرجت بشكل عفوي: "شيل الملقي وحط حمار". الجميع خرج بصوتٍ مبحوح، وبالسُّعال الديكي.

الأجهزة الأمنية لم تقمع أو تُهدد المتظاهرين. لكن السؤال الوجيه الذي يطفو على السطح، لماذا لم يفعلوا ذلك، على غرار المرات السابقة، ولو بوكزة من الإصبع؟ إن الهتافات اللطيفة التي كان المتظاهرون يهتفون بها، مشكورين، مثل: "إحنا والدرك والجيش، بتجمعنا لقمة العيش" هي لا شيء في حقيقة الأمر، مخطئ من يظن أنها منعت شبان الدرك، المُحمّلين بالهروات ومسيل الدموع، من القمع، إن كل ما بوسع الدركي أن يفعله، تحت وطأة تلك الهتافات العاطفية، وإذا ما جاءته الأوامر، أن يقمع بقلبٍ مفطور.

 الأوامر جاءت من الأعلى، من الملك ربما، وهذا ما أكدته الرسالة التي نقلها الأمير الحسين مباشرة منه إلى الدرك في الميدان: "بسلم عليكم جلالة الملك، وبقلكم يعطيكم العافية، ما قصرتوا، احموا المواطنين، وهذا ما فعلتموه بالضبط". 

أمر آخر، الجميع يدرك أن القيادات العسكرية تحاضر في الجنود وتلقّنهم التعليمات، وما هو المطلوب بالتحديد، في ساحات الكتيبة، قبل الخروج إلى أي مكان وليس على ناصية الشارع ولثلةٍ منهم. الفيديوهات التي انتشرت على كبرى صفحات التواصل، لقيادات من الدرك، تطلب من الجنود الانضباط وعدم المساس بأي مواطن ولو بدفعه بالكتف، كانت جميعها في سياق واحد، للاجترار الإعلامي، وتوصيل الرسائل المباشرة، وتطمين المواطنين وربما دفعهم للنزول بكل سلميةٍ إلى الشارع أيضا، لحاجةٍ في نفس يقعوب. وهذا ما شجع الشُّبان المتهيبين للنزول على أية حال.

 أحد الضباط تحمّس وقال، بينما الكاميرا تتجوّل من حوله: "سأكسر يد أي جندي تمتد على المواطن، مفهوم؟"، وهز الجنود رؤوسهم بأنه مفهوم. وربما الضابط نفسه كان ليصرح بعكس ذلك إن جاءته التعليمات. ففي الحياة العسكرية كل شي متعلق بالتعليمات. الجميع يدرك ذلك أيضا. 

أضف إلى ما سبق، أن أحدا لم يقم بتجييش متظاهرين مُضادين، موجّهين بالريموت كونترول، ليشتموا ويُخونوا الآخرين، كما كان يحدث سابقا. لم تتم مشاهدة أي تجمع مناوئ، الجميع منخرط في حبكةٍ واحدة، وربما تحت السقف ذاته من المطالب.

في حقيقة الأمر، ما حدث يُشبه الحلم، أنا أحد المشاركين، أستقيظ اليوم صباحا، بعد عدة أيام من المظاهرات الحاشدة، ولا أتذكر شيئا. الحكومة السابقة كانت كما لو أنها سنٌ متعفنة، وهي كذلك في حقيقة الأمر، ما عاد بالإمكان تحمل ذلك الألم الصادر عنها، فما أن نكزها الشّعب الغاضب بطرف اصبعه، دون الحاجة لخيطٍ وباب، حتى هرّت من تلقاء نفسها، دون دماءٍ أيضا، إنما فاحت منها رائحة فاسدة. 

لكن، من السذاجة السياسية، وضيق الرؤية، الحديث الآن عن دخولنا جنة الحياة الرخية والانفراج السياسي والاقتصادي في الأردن، فهذه المعنويات العالية لدى كافة فئات المجتمع، والشعور بالحرية وتنفس نسائم المستقبل المشرق المنعشة، كما لو أنها عود ثقاب لمع وهجه برهة ثم خبا. لا تصنع هذه المعنويات، وعلى الفور، فرص عمل لمئات الآلاف من الشّبان، سواء الجامعيين منهم أو حتى الحرفيين وأصحاب الأعمال اليومية، لا تخرج برلمانا حرا نزيها غير محاب أو متهاون، ولا تزج بالفاسدين الذي يسرقون المال العام، ليس بالقطارة، إنما بالقنطار، وبشكلٍ ممنهج ومُنظم ومحمي الظهر، إلى أروقة القضاء وخلف القضبان، ولا حتى من شأنها أن تترك دفّةَ الحكم الآن لحكومة برلمانية منتخبة.

عمر الرزاز جاء بالكيفية ذاتها التي جاء بها الملقي، مع إعطاء شرعية ضئيلة لطريقةِ تنصيبه، ولعلني أتذكر مقولة مهمة في هذا الصدد، ربما قالها أينشتاين، تتحدث عن تعريفٍ جيدٍ للسذاجة بأنها القيام بالعمل مرتين بالطريقة ذاتها، مع توقع نتائج مختلفة.

لن أكون سوداويا على أية حال، إن كان النفق المعتم بطول مئة ميل، فإننا ما زلنا في المتر الأول منه، وما حدث حرك السّاكن العفن، وهذا هو جوهر الأمر، تليين القدمين بعد خدرٍ طويل، والبدء في المسير، وإن كان بطيئا، فالسُّلحفاة المثابرة تصل أولا.

3FDD35D3-6257-48D6-A5FC-516713EC6B25
عثمان مشاورة

قاص وروائي وفنان تشكيلي من الأردن. صدرت له مجموعة قصصية عام 2012، وروايتان "شارع اللغات السعيد" عام 2011، و"مقهى البازلاء" عام 2012.