الأب والابن
الأب والابن
مائية (محمد العامري)
كنت أدوّن ذكرياتٍ طائرةٍ ومشوَّشة، أسأل أخي أحمد (وارث ذاكرة أمي العجيبة)، أستجمع قواي لدخول قلعة الطفولة المسيَّجة بأشباحها، عندما قال لي والدي إنه "يكتب".
سألته: ماذا تكتب؟ فقال: مذكّراتي.
في تلك اللحظة التي أخبرني فيها والدي أنه يكتب "مذكّراته"، ونحن نحتسي شاياً حلواً ومُنعْنَعاً على برندة بيتنا في المفرق، قبل أذان صلاة المغرب الذي ينبعث من عشرة مكبرات صوت حولنا، استدعت ذاكرتي، بلؤمٍ انتقاميٍّ، حادثةً واحدةً بعينها من بين ركام الذكريات.
كنا نسكن في بيت مكوَّن من غرفتين طينيتين. واحدة ينام فيها أبي وأمي وأخواتي الإناث، والأخرى أنام فيها أنا، بكر العائلة، وإخوتي الذكور. الغرفة التي كنت أنام فيها تؤدي، نهاراً، وظائف عدة بعد رفع الفراش على المطوى الخشبي: مضافة للضيوف، غرفة جلوس عائلية ساعتين أمام التلفزيون حديث العهد، غرفة مطالعة لدروسنا الكئيبة. على الطاولة الوحيدة في بيتنا، كنت أضع كتبي المدرسية أمامي، وأبدو لمن يدخل الغرفة منكبَّاً على دروسي، بينما كنت أكتب، في حالٍ من الخفَّة والهيام، "قصيدة حبّ". دخل والدي في تلك العصرية الخريفية، فجأة، إلى الغرفة، ليتأكد أنني أطالع كتبي المدرسية وليس رواية، مثلما ضبطني أفعل أكثر من مرة، أو لست منشغلاً بشيء آخر عن دروسي التي أقضَّ مضجعه تقصيري الفادح فيها. حاولت، سريعاً، أن أدسَّ الورقة التي كتبتُ عليها سطوراً محمومةً من وجع قلبٍ مراهقٍ في كتابي المدرسي، لكن يد والدي كانت أسرع. أخذ الورقة التي فضحت مضمونَها محاولتي الفاشلة في إخفائها، وقرأها. اربدَّ وجهه وتقلَّص. تطلَّع إليّ بعينين تقدحان شرراً، وقال: إنتا اللي كتبت هاذا؟ فقلت له: أنا نقلتها من كتاب لحيدر محمود. اختياري السريع لاسم حيدر محمود لم يكن مصادفة، فهو الشاعر الوحيد الذي يعرفه والدي. إنه "شاعر الملك" الذي تُغنى قصائده في الإذاعة، ويعرفه القاصي والداني في بلادنا، ويمكن لي، بما أنه "شاعر الملك"، أن أنقل منه قصيدة. لم تنطل الحيلة على والدي، فمزّق الورقة، ثم صفعني بقوة على وجهي وقال: إصحك بعد تكتب هاذي السخافات، وانتبه لدروسك أحسن.
لم يعرف والدي، عندما أخبرني أنه "يكتب"، ما دار، تلك اللحظة، في ذهني. لم يعرف أن ذاكرتي استدعت، كما لو أنها تنتقم، تلك الصفعة التي أصمّت أذنيَّ (أسمع وشيشاً في أذني، الآن، وأنا أكتب هذه الكلمات). كان والدي ينتظر مني، على الأغلب، أن أقول شيئاً، فقلت، كابتاً انفعالاً سريعاً اعتمل في داخلي، إنه أمر جيد أن يكتب. فقال، كأنه يعتذر عن عمل يتطفل عليه بحضور "كاتب حقيقي": يعني مهي كتابة كتابة، بس مشان تعرفوا بعض الأشياء.
عرض علي والدي، بعد هذه المفاتحة، فصولاً من "مذكراته". كانت سرداً متقشفاً ومتراصفاً، تراصف الطابور العسكري، لمفاصل من حياته مع تداخل في الأحداث التي طبعت بلادنا والعالم من حولنا.
تراءى لي الزمن، وأنا أقرأ أوراق والدي، دائرياً، يبدأ من نقطةٍ ثم يعود إليها. أفهم أن يتقمّص الأبناء شخوص آبائهم، حتى وهم يظنون أنهم يتمرّدون عليهم. ولكن ما أدهشني، حقاً، أن يعود الآباء، بعد مشارفة دورة العمر على الاكتمال إلى تمثّل أبنائهم.
فما الذي دفع والدي إلى استخدام القلم الذي لا يستخدمه، عادةً، إلاَّ لتدوين الرسائل، أو تسجيل ما وصل إليه من نقود، وما صَرفَ، مهما قلَّ شأنها، في دقة وتنظيم عجيبين.. أقول ما الذي جعله يستخدم القلم في منحىً مختلف بالكامل، هذه المرة، سوى أن ابنه البكر، كابوس حياته حيناً من الدهر، قد صار كاتباً؟
أثَّر فيَّ عميقا قول والدي إنه "يكتب" شيئاً عن حياته. قال "يكتب"، وهذا يعني أن عمله يصدر من منطقة وعيٍ لفعل الكتابة، يتجاوز الرسائل المسهبة، المنمقة، ذات الخط الجميل التي كان يرسلها، بين حين وآخر، إلى أبنائه في مغترباتهم، ليخبرهم بتطورات تحدث في البيت أو المحيط العائلي المباشر.
ذهب قلم والدي، هذه المرة، في انحرافةٍ حادة عن عادته، إلى ما هو أبعد من الرسالة التي يستهلها دائما بالمقدس: بسم الله الرحمن الرحيم.. ولدنا العزيز فلان.. وأبعد، بالتأكيد، من ضبط النفقات والفواتير. ها هي الكلمات، التي تلقيت بسببها صفعةً مدوية عندما وجد "قصيدة" غراميةً، كنت على وشك أن أدسَّها في كتاب مدرسيٍّ، تستعيد كرامتها المهدورة!